اشتهر العرب بالحفظ؛ لأنهم مرنوا عليه منذ نشأتهم لاضطرارهم إليه، فصار عندهم شيئًا مألوفًا، وساعدهم عليه صفاء أذهانهم وقلة مشاغلهم الدنيوية؛ إذ كانوا يكتفون من الطعام بالتمرة، ومن الثياب بالقميص أو الإزار والرداء، ومن المسكن بالخباء، بله كثرة رياضتهم البدنية التي تقتضيها معيشتهم البدوية. فما كان الشاعر يفرغ من قراءة قصيدته على ملأ من قومه حتى يكون أكثرهم قد استظهرها.
ولقد كان العلماء في فجر الإسلام يفاخر بعضهم بعضًا بالحفظ، وقلمَّا يكون لأحدهم كتاب واحد يعتمد عليه فيما يزاول، وكان بعضهم يهلك كتبه خوفًا من الاتكال عليها؛ ولذلك نبغ الحُفَّاظ في هذه الأمة، وأكثرهم في الحديث والشعر واللغة، حتى كان الرجل منهم يتصدر في مجلس العلم فيُملي من محفوظه ما شاء الله، لا يرجع إلى كتاب، وتبقى أماليه مرجعًا للباحثين والطلاب، وهذه كتب الأمالي أكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر بالشرق وبالأندلس، وقد وصف العلماء الأمالي فقالوا: “هو جمع إملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة؛ فيصير كتابًا، ويسمونه الإملاء والأمالي.
ولما كانت عناية القوم منصرفةً إلى الحديث، كثر الحُفَّاظ في هذا الفن، وأتوا بالغرائب والبدائع، فقد كان معظمهم لا يرجع إلى كتاب ولا يقتني كتابًا كما أسلفنا، وإنما يتفجر علمهم من المحفوظ في صدورهم، ولم يكن الرجل يستحق لقب الحافظ إلا إذا بلغ محفوظه من ثلاثة آلاف فما فوق.
قال يزيد بن هارون: “أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفًا لا أُسأل عنها”؛ قال عنه زياد بن أيوب: ما رأيت ليزيد كتابا قط، ولا حدثنا إلا حفظا.
وثابت عند أهل السير والتاريخ أن ابن أبي عاصم نهب الزنج كتبه في فتنة بالبصرة، فأعاد من حفظه خمسين ألفًا، وأن البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف دون الصحيح، ونهاية ما وصل إليه البشر ما بلغه ابن حنبل، قالوا: “إنه حفظ ألف ألف حديث”.
وقد اشتهر الحُفَّاظ في الأندلس وفي المغرب، وأتوا بالعجائب والغرائب، فمنهم: ابن حزم المشهور، وأبو العباس أحمد المقري، صاحب كتاب نفح الطيب، ومنهم عبد الواحد المراكشي، أملى بمصر التي كان فيها سنة 619 كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وهو من نفائس الكتب.
وقد انتشرت عادة الحفظ في جميع طبقات الأمة الإسلامية، فقد ذكر ابن خلِّكان أن الملك المعظم عيسى سلطان الشام ابن الملك العادل الأيوبي الفقيه الحنفي، الأديب المتوفى سنة 604، أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه، فجرَّدوه له في عشرة مجلدات، وسموه التذكرة، وكان لا يفارقه سفرًا ولا حضرًا، ويديم مطالعته، وذكر أنه كتب على كل جلد منه (حفظه عيسى) فقيل له يومًا: أنت مشغول بتدبير الملك، فكيف يتيسر لك حفظ هذا المقدار؟ فقال: كيف الاعتبار بالألفاظ؟ وإنما الاعتبار بالمعاني، باسم الله سلوني عن جميع مسائلها.
وكان لهذا الملك الهمام عناية بالأدب وأهله، وقد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأى ابن خلكان بعضهم بدمشق، وقال: لم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.
وأما الشعراء والرواة الذين حفظوا أشعار العرب ودواوين المتقدمين فهم كثيرون أيضًا، ومنهم: أبو نواس، لم يقل الشعر حتى حفظ ثلاثين ديوانًا ـ فيما أذكر ـ للشواعر من نساء العرب، ولا نذكر الأصمعي وأمثاله، فهم أشهر من نار على علم، وإنما نقول هذه المزية اشترك فيها أهل الأندلس أيضًا، وحسبنا التنويه بذكر ابن عبد ربه، كان أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، لا يخطئ منه واوًا ولا ألفًا، وهذه المسألة العجيبة مشروحة في كتاب عبد الواحد المراكشي، وتستحق أن يرجع إليها أهل الأدب والطالبون للوقوف على أحوال الأكابر في عصر الإسلام الزاهر.
ومن غرائب الحُفَّاظ ما يُروى من أن الإمام الجليل أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كان إذا نظر في كتاب وضع يده فوق السطور التي تلي السطر الذي يقرؤه؛ خوفًا من أن تمر عليها عينه فتعلق بذهنه، فإنه ما كان ينظر شيئًا إلا حفظه، وهو القائل:
علمي معي حيـث ما يَمَّمتُ كان معي .. .. صــدري وعــاءٌ له لا بطــن صــندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي .. .. أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ومما يدل على عناية العلماء بالحفظ واعتمادهم عليه قولُ الإمام أبي محمد علي بن حزم:
إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي .. .. تضمَّنه القرطاس إذ هو في صدري
يســير معي حــيث استقــلت ركائبي .. .. ويـنــزل إن أنــزل ويُـدفن في قبري
وليس هذا الأمر بغريب أو بعيد إذا اعتبرنا أن أهل الشرق على العموم لهم سليقة غريبة في الحفظ، وكانوا يزيدونها قوة بالممارسة والرياضة، وقد اشتهر هذا الأمر عن كثير من نوابغ الإفرنج المتقدمين والمتأخرين، فلا محل للشك فيما رواه الثقات من علماء المسلمين، وإنما يتطرق إلينا الوهم بأن هذه المرويات هي من باب المبالغات الشرقية، نظرًا لانحطاط الهمم والقعود عن الكسب والتحصيل، فصرنا نقيس المتقدمين على أنفسنا.
هؤلاء بعض أئمة الحُفَّاظ من علماء القرون الأولى، ومما ذكرناه عنهم يعلم القارئ أن كل اعتمادهم في تلك العصور إنما كان على الحفظ، لا على الكتب، وأن حوافظهم كانت لا تزال قوية كما كانت في عصر الجاهلية؛ وذلك لقرب ما بين الزمنين، ولبقيةٍ بقيت فيهم من تلك الآثار والأخلاق التي قوَّت فيهم مَلكة الحفظ.
ومما يؤيد هذه الروايات ما اشتهر به بعض علماء أوروبا في القرنين الماضيين من كثرة الحفظ المدهش، وهم كثيرون، نكتفي منهم بذكر أمير قيل إنه أكبَّ على قراءة الإنسكلوبيديا، وابتدأ يحفظها من لدن الجزء الأول حتى بلغ الجزء العشرين، وبقيت هذه الأجزاء في ذاكرته حتى مضى على قراءته إياها خمسون عامًا، وقراء الإنسكلوبيديا يعرفون اختلاف موضوعات كل جزء منها ومقدار صعوبتها على الحُفَّاظ، مما يدل على مقدار ذلك الرجل النادر المثال.
وكثير من علماء الإسلام في القرون الأولى كانوا جوالين في البلاد لطلب العلم الشفهي بعضهم من بعض، وكانت هذه سنتهم في تلك العصور، يستوي فيهم الطالب والمطلوب منه، غير أن طلب العلم على تلك الصورة الشفهية إذ ذاك كان صعبًا لوعورة الطرق وعدم المواصلات الحديثة، وغيرها من مسهلات الطرق، فكان غير ميسور لكل طالب إلا لمن استطاع أن يضرب له أكباد الإبل، ويكابد المشقات الشديدة في الرحلة إلى الأصقاع البعيدة والأمكنة الشاسعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتبس من كتاب: الحضارة الإسلامية لأحمد زكي