ترجمة: علاء الدين أبو زينة

كارمن رينهارت؛ وفينسنت رينهارت* – (فورين أفيرز) عدد أيلول (سبتمبر)/ تشرين الأول (أكتوبر) 2020
الطريق إلى التعافي
في النصف الثاني من العام 2020، بينما تصبح أزمة الصحة العامة تحت السيطرة ببطء، من المرجح أن تكون هناك مكاسب رائعة ظاهرياً في النشاط الاقتصادي والتوظيف، وعلى نحو يشيع التفاؤل مالياً وفي الأسواق. ومع ذلك، من غير المرجح أن يؤدي هذا التأثير الارتدادي إلى التعافي التام. لن تتمكن، حتى استجابة مستنيرة ومنسقة في سياسة الاقتصاد الكلي، من بيع المنتجات التي لم يتم تصنيعها أو الخدمات التي لم يتم تقديمها مطلقًا.
حتى هذا الوقت، كانت الاستجابة المالية في جميع أنحاء العالم مستهدفة ومخططة بشكل ضيق نسبيًا باعتبار أنها مؤقتة. وقد أقر الكونغرس الأميركي المتصلب عادة أربع جولات من تشريعات التحفيز في أسابيع عدة فقط. لكن العديد من هذه الإجراءات إما أنها لمرة واحدة أو أن لها تواريخ انتهاء صلاحية محددة مسبقًا. ولا شك في أن سرعة الاستجابة كانت مدفوعة بحجم المشكلة وطبيعتها المفاجئة، والتي لم توفر أيضًا للسياسيين فرصة لإضافة برامج التمويل العام إلى التشريع. وتمثل الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة حصة كبيرة نسبيًا من الدعم المالي الذي يقدر بنحو 11 تريليون دولار الذي ضخته دول مجموعة العشرين في اقتصاداتها. ومرة أخرى، يوفر الحجم الأكبر مساحة أكبر للمناورة. وهكذا، طورت البلدان ذات الاقتصادات الأكبر خطط تحفيز أكثر طموحًا. وعلى النقيض من ذلك، يقل الحافز الإجمالي للأسواق الناشئة العشرة في مجموعة العشرين بخمس نقاط مئوية عن نظرائه في الاقتصادات المتقدمة. ويعني هذا، لسوء الحظ، أن الاستجابة المعاكسة للدورة الاقتصادية ستكون أصغر في تلك الأماكن التي تضررت بشكل أكبر من الصدمة. ولكن، حتى مع ذلك، فإن التحفيز المالي في الاقتصادات المتقدمة يظل أقل إثارة للإعجاب مما تشير إليه الأرقام الكبيرة. في مجموعة العشرين، كانت أستراليا والولايات المتحدة فقط هما اللتان قدمتا أموالاً أكثر للشركات والأفراد في شكل قروض وأسهم وضمانات. ويتعلق التحفيز في الاقتصادات الأوروبية، على وجه الخصوص، بالميزانيات العمومية للشركات الكبيرة أكثر مما يتعلق بالإنفاق، ما يثير تساؤلات حول فعاليته في موازنة الصدمة في الطلب.
كما حاولت البنوك المركزية تحفيز الاقتصاد العالمي الذي شرع في الفشل. وقامت تلك البنوك التي لم تكن أيديها مقيدة مسبقاً بقرارات سابقة لإبقاء أسعار الفائدة معلقة عند مستويات دنيا تاريخية -كما فعل بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي- بتخفيف قبضتها على تدفق الأموال. ومن بين تلك المجموعة كانت البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة، بما فيها البرازيل، وتشيلي، وكولومبيا، ومصر، والهند، وإندونيسيا، وباكستان، وجنوب إفريقيا وتركيا. في أوقات الشدة السابقة، كان المسؤولون في مثل هذه الأماكن غالبًا ما يذهبون في الاتجاه الآخر، حيث يتبنون سياسة رفع الأسعار لمنع انخفاض سعر الصرف واحتواء التضخم، وبالتالي هروب رأس المال. ومن المفترض أن تكون الصدمة المشتركة قد أدت إلى تكافؤ الفرص، ما قلل من المخاوف بشأن هروب رأس المال، الذي عادة ما يصاحب انخفاض قيمة العملة وانخفاض أسعار الفائدة.
وبالقدر نفسه من الأهمية، كافحت البنوك المركزية بشدة للحفاظ على تدفق الأقنية المالية عن طريق ضخ احتياطيات العملات في النظام المصرفي وخفض متطلبات احتياطي البنوك الخاصة حتى يتمكن المدينون من تسديد المدفوعات بسهولة أكبر. وعلى سبيل المثال، فعل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كلا الأمرين معاً، حيث ضاعف المبلغ الذي ضخه في الاقتصاد في أقل من شهرين، ووضع نسبة الاحتياطي المطلوبة عند الصفر. ورتبت مكانة الولايات المتحدة كجهة مُصدرة لعملة الاحتياطي العالمي، على الاحتياطي الفيدرالي مسؤولية فريدة لتوفير السيولة بالدولار على مستوى العالم. وقد فعل ذلك من خلال ترتيب اتفاقيات لمقايضة العملات مع تسعة بنوك مركزية أخرى. وفي غضون أسابيع قليلة من اتخاذ هذا القرار، اقترضت تلك المؤسسات الرسمية ما يقرب من نصف تريليون دولار لإقراضها لبنوكها المحلية.
ربما يكون الأمر الأكثر أهمية هو أن البنوك المركزية تمكنت من الحيلولة دون وقوع الشركات غير السائلة، مؤقتًا، في الإفلاس. ويمكن للبنك المركزي أن ينظر إلى ما وراء تقلبات السوق وأن يشتري الأصول غير السائلة حاليًا، وإنما التي يبدو أنها قادرة على الوفاء بقيمتها. وقد استخدم محافظو البنوك المركزية جميع الصفحات تقريبًا من هذا الجزء من الكتاب الإرشادي النموذجي، مع أخذ مجموعة واسعة من الضمانات، بما في ذلك الديون الخاصة والبلدية. وتتضمن القائمة الطويلة للبنوك التي سنت مثل هذه الإجراءات مجموعة من المشتبه بهم المعتادين في العالم المتقدم -مثل بنك اليابان، والبنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي- إضافة إلى البنوك المركزية في اقتصادات ناشئة مثل كولومبيا، وتشيلي، والمجر، والهند، ولاوس، والمكسيك وبولندا وتايلاند. وبشكل أساسي، تحاول هذه البلدان بناء جسر فوق عدم السيولة الحالي إلى الاقتصاد المستقبلي المتعافي.
تصرفت البنوك المركزية بقوة وبسرعة. ولكن، لماذا كان عليها أن تفعل؟ ألم تكن الجهود التشريعية والتنظيمية التي أعقبت الأزمة المالية الأخيرة تهدف إلى تخفيف الأزمة في المرة المقبلة؟ كانت غزوات البنوك المركزية ودخولها إلى مناطق بعيدة عن العُرف والقواعد نتيجة مباشرة لعيوب التصميم في المحاولات السابقة للعلاج. بعد أزمة العام 2008، لم تفعل الحكومات شيئًا لتغيير تفضيلات المخاطرة والعوائد للمستثمرين. بدلاً من ذلك، جعلت من الأكثر تكلفة بالنسبة للمجتمع المنظم -أي، البنوك التجارية، وخاصة البنوك الكبيرة- استيعاب الطلب على القروض الأقل نوعية من خلال فرض قيود على الرافعة المالية، وجودة الأصول، واختبارات الإجهاد، وما يسمى بوصايا الحياة. وكانت نتيجة هذا الاتجاه ظهور بنوك الظل، وهي مجموعة من المؤسسات المالية غير المنظمة إلى حد كبير. وتتعامل البنوك المركزية الآن مع أصول جديدة وأطراف مقابِلة جديدة لأن السياسة العامة دفعت إلى الخارج، عن قصد، البنوك التجارية التي كانت تدعم في السابق الشركات والحكومات غير السائلة. (التي ليس لديها التدفقات النقدية اللازمة لتسديد مدفوعات الديون المطلوبة منها).
من المؤكد أن إجراءات البنوك المركزية تمكنت على ما يبدو من إيقاف تدهور متراكم في أداء السوق مع إجراء تخفيضات في أسعار الفائدة، وضخ كميات هائلة من السيولة، وعمليات شراء الأصول. وكان قد تم نسج التصرف بهذه الطريقة في الحمض النووي للبنوك المركزية منذ فشل بنك الاحتياطي الفيدرالي في القيام بذلك في الثلاثينيات، وهو ما كان له تأثير مأساوي. ومع ذلك، فإن النتيجة النهائية لهذه السياسات ربما تكون بعيدة عن أن تكون كافية لتعويض صدمة كبيرة مثل التي يعيشها العالم الآن. كانت أسعار الفائدة طويلة الأجل منخفضة كثيراً مُسبقاً قبل أن ينتشر الوباء. وعلى الرغم من كل الدولارات الأميركية التي يوجهها الاحتياطي الفيدرالي إلى الخارج، ارتفعت قيمة صرف الدولار بدلاً من أن تنخفض. وليست إجراءات التحفيز النقدي هذه كافية في حد ذاتها لقيادة الأسر والشركات إلى الإنفاق أكثر، بالنظر إلى الضائقة الاقتصادية وعدم اليقين الحاليين. ونتيجة لذلك، فإن أهم محافظي البنوك المركزية في العالم -هاروهيكو كورودا، محافظ بنك اليابان؛ وكريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي؛ وجيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي- كانوا يحثّون الحكومات على تبني تدابير تحفيز مالي إضافية. وتمت تلبية مناشداتهم، وإنما ليس بشكل كامل، ولذلك كان هناك تراجع هائل في النشاط الاقتصادي العالمي.
الاقتصاد ومتاعبه
سوف يكون ظل هذه الأزمة طويلاً ومظلمًا -أكثر من ظلال العديد من الأزمات السابقة. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تتضخم نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة من 3.3 في المائة في العام 2019 إلى 16.6 في المائة هذا العام، وسوف ترتفع في الأسواق الناشئة من 4.9 في المائة إلى 10.6 في المائة خلال الفترة نفسها. وتحذو العديد من البلدان النامية حذو نظيراتها المتقدمة في فتح صنبور المالية العامة. لكن العديد من الحكومات، من بين الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء، تفتقر إلى الحيز المالي للقيام بذلك. والنتيجة هي ظهور عدة ميزانيات حكومية متمددة فوق طاقتها.
سوف يعيق التعامل مع هذا الدَّين إعادة البناء. وقد أجلت مجموعة العشرين بالفعل مدفوعات خدمة الديون لـ76 دولة من البلدان الأكثر فقراً. وسوف يتعين على الحكومات الأكثر ثراءً ومؤسسات الإقراض بذل المزيد من الجهد في الأشهر المقبلة، وإدماج الاقتصادات الأخرى في خططها لتخفيف الديون وإشراك القطاع الخاص. لكن الإرادة السياسية لاتخاذ هذه الإجراءات قد تكون مفقودة إذا قررت البلدان التحول إلى الداخل بدلاً من دعم الاقتصاد العالمي.
دُفعت العولمة إلى عكس وجهتها لأول مرة مع وصول إدارة ترامب إلى السلطة في العام 2016. وسوف يستجمع هذا التراجع الزخم والسرعة فقط عندما يتم إلقاء اللوم عليها بالتسبب في الفوضى الحالية. يبدو أن الحدود المفتوحة تسهل انتشار العدوى. ويبدو أن الاعتماد على أسواق التصدير يجر الاقتصادات المحلية إلى أسفل عندما يتضاءل حجم التجارة العالمية. وشهدت العديد من الأسواق الناشئة انهيار أسعار سلعها الأساسية وانهيار التحويلات من مواطنيها في الخارج. كما أن المشاعر العامة مهمة للاقتصاد، ومن الصعب تخيل أن المواقف تجاه السفر إلى الخارج أو التعليم في الخارج سوف تتغير بسرعة. وبشكل عام، فإن الثقة -وهي مادة تشحيم رئيسية لمعاملات السوق- تعاني من نقص في المعروض دوليًا. وسوف يكون عبور العديد من الحدود صعباً، وسوف تتفاقم الشكوك حول مصداقية بعض الشركاء الأجانب.
وهناك سبب آخر أيضاً لتعثر التعاون العالمي، وهو أن صانعي السياسة قد يخلطون بين الانتعاش قصير الأجل والتعافي الدائم. ويعد وقف الانحدار في الدخل والإنتاج إنجازًا حاسمًا، ولكن، كذلك أيضًا سيكون أمر تعجيل التعافي. كلما استغرق الأمر وقتًا أطول للخروج من الحفرة التي أحدثها هذا الوباء في الاقتصاد العالمي، طالت مدة بقاء بعض الناس عاطلين عن العمل بلا داع، وزادت احتمالية إعاقة آفاق النمو على المديين المتوسط والطويل بشكل دائم.
وسوف تكون العواقب الاقتصادية مباشرة. مع انخفاض الدخل في المستقبل، تصبح أعباء الديون أكثر إرهاقاً. ومن الصعب التنبؤ بالعواقب الاجتماعية. ينطوي اقتصاد السوق على صفقة بين مواطنيه: سيتم استخدام الموارد بأكبر قدر ممكن من الكفاءة لجعل الفطيرة الاقتصادية كبيرة بقدر الإمكان وزيادة فرصة نموها بمرور الوقت. وعندما تتغير الظروف نتيجة للتقدم التكنولوجي أو فتح طرق التجارة الدولية، تتغير الموارد، ما يخلق رابحين وخاسرين. وبما أن الكعكة تتوسع بسرعة، يمكن للخاسرين أن يجدوا السلوى في حقيقة أن الحجم المطلق لشرائحهم ما يزال ينمو. وعلى سبيل المثال، سوف يعني نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 4 في المائة سنويًا، وهو المعيار السائد بين الاقتصادات المتقدمة في أواخر القرن الماضي، سوف يعني ضمناً مضاعفة الإنتاج في 18 عامًا. أما إذا كان النمو بنسبة واحد في المائة، وهو المستوى الذي ساد في ظل الركود الاقتصادي في الفترة 2008-2009، فإن الوقت الذي تستغرقه مضاعفة الإنتاج يمتد إلى 72 عامًا. ومع ظهور التكاليف الحالية بوضوح وتراجع الفوائد إلى أفق أكثر بعداً، ربما يبدأ الناس في إعادة التفكير في صفقة السوق.
أشار المؤرخ هنري آدامز Henry Adams ذات مرة إلى أن السياسة تدور حول التنظيم المنهجي للكراهية. والناخبون الذين فقدوا وظائفهم وشاهدوا أعمالهم وهي تغلق والذين استُنفدَت مدخراتهم غاضبون. وليس هناك ما يضمن أن يتم توجيه هذا الغضب في اتجاه مثمر من قبل الطبقة السياسية الحالية -أو من قبل أولئك الذين سيتبعون إذا تم التصويت على إخراج السياسيين الذين في السلطة. وغالبًا ما يرتفع مد القومية الشعبوية عندما ينحسر الاقتصاد، ولذلك من شبه المؤكد أن يزداد انعدام الثقة في أوساط المجتمع العالمي. وسيؤدي ذلك إلى تسريع تدهور التعددية، وقد يخلق حلقة مفرغة من خلال المزيد من خفض الآفاق الاقتصادية المستقبلية. كان هذا بالضبط هو ما حدث في الفترة بين الحربين العالميتين، عندما ازدهرت السياسات القومية وسياسة إفقار الجار ودفعه إلى التسوُّل.
لا يوجد حل واحد يناسب الجميع لهذه المشاكل السياسية والاجتماعية. لكن أحد الإجراءات الحكيمة هو الحيلولة دون تفاقم الظروف الاقتصادية التي أنتجت هذه الضغوط. ويحتاج المسؤولون إلى التركيز على الحوافز المالية والنقدية. وفوق كل شيء، يجب عليهم الامتناع عن الخلط بين عودة ارتدادية للانتعاش وبين التعافي الحقيقي والكامل.

*Carmen Reinhart: أستاذة مينوس أ. زومباناكيس في النظام المالي الدولي بكلية كينيدي في هارفارد. وبعد كتاب هذا المقال، تم تعيينها رئيسة للخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي.
*Vincent Reinhart: كبير الاقتصاديين والاستراتيجيات الكلية في ميلون.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Pandemic Depression: The Global Economy Will Never Be the Same