الحمد لله على نعمه التي لا تحصر، وآلائه التي لا تقدر. والحمد لله ما قام عبد لله في مسجد فصلى وكبر. والحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر.. وبعد:
فلا شك أن ما عاشه العالم وعشناه معهم في الشهور الماضية ـ وما زلنا نعيشه ويعيشونه ـ إنما هو ابتلاء عظيم، وكرب وبلاء كبير..
ولا شك أن في ابتلاء الله للناس حكما ومقاصد لعل منها:
الرجوع والتضرع إلى الله:
ففي الابتلاء تذكير للكافر والمشرك والغافل والمفرط، لعل الكافر أن يؤمن، ولعل العاصي أن يتوب ويستغفر، ولعل المؤمن أن يتضرع لله فيكثر.. {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا}(الأنعام:42 -43 ).
ومنها التمييز بين المؤمنين والمنافقين:
فإن المؤمن يرى هذه الابتلاءات فيزداد في الله يقينا، وبه إيمانا، وله معرفة وإذعانا، ويتعرف على مواطن قدرته، وآثار عظمته فيزداد رسوخا وإيمانا.
وأما المنافق فلا يرى منها إلا الجانب السيئ؛ فيظن بالله ظن السوء؛ فيزداد للدين كرها، وعلى الله سخطا، ومنه بعدا..
تماما كما حدث في غزوة الأحزاب، حيث قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}(الأحزاب: 12 ).
وأما أهل الإيمان فقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}(الأحزاب: 22).
ومنها: التعرف على قدرة الله وعظمته:
فإن ما حدث ويحدث يدل كله على قدرة الله القاهرة، وعظمته الباهرة، ومدى تفرده سبحانه في تدبير أمر خلقه، وأنه جل في علاه في لحظة يحول الناس من حال إلى حال.. يحبسهم في بيوتهم، يخلي شوارعهم، ويوقف مصانعهم، ويعطل مصالحهم، ويدمر اقتصادهم، ويفضح حضارتهم، وينقلهم من الأمن والسكينة إلى الرعب والخوف..
لا يمنعه من ذلك جيوشهم الجرارة، ولا آلتهم العسكرية الجبارة، ولا قوتهم الاقتصادية الباهرة، ولا حضارتهم الزائفة، ولا يحتاج إلى زلازل وقوارع، ولا إلى صيحة ولا إلى حجارة تنزل من السماء.. بل يكفي لكل ذلك مخلوق صغير صغير من خلق الله لا يرى بالعين المجردة {وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر}.
تحسس النعم وشكرها
ومن أعظم منافع هذا الوباء وذلك الابتلاء أنه يجعلنا نعود إلى أنفسنا فنتحسس نعم الله علينا فنتعرف عليها لنشكرها، فإن النعم قيدها الشكر، فإذا كُفرت رُفعت، وإذا نُسيت ذهبت.
لقد كنا نرفل في نعم كثيرة ولا نراها نعما أصلا.. فغفلنا عن شكر الله عليها؛ فجاء هذا البلاء ليذكرنا بها.
كل يوم تذهب إلى عملك وتعود بعده إلى بيتك، لا ترى لله في ذلك عليك نعمة، بل إن البعض كان يتأفف، ويتفلت، ويتعلل، ويتمنى لو جلس في البيت. فلما جلسنا عرفنا نعمة الله تعالى علينا.
كنا نتلاقى فنتصافح فتتساقط ذنوبنا، ونتعانق فتزداد محبتنا، ونتزاور فتزداد ألفتنا، وكان الكثيرون يرون أنها طبيعة حياة وأسلوب معيشة، ولا نظرون إليها على أنها من النعم.. فإذا كل ذلك ينقلب في لحظة إلى التباعد والانفراد والوحشة.
كان أبناؤنا يذهبون إلى المدارس في سلام ويعودون ونحن مطمئنون عليهم، لكن لا نرى أن هذا أيضا من النعم.
حتى المساجد بيوت الله كنا نرى وجودها طبيعيا، وذهابنا إليها حسب رغبتنا، لا نرى من النعم السعي إليها، ولا الجلوس فيها، ولا المرابطة انتظارا للصلاة بعد الصلاة، ولا الدعاء بين الأذان والإقامة، ولا الجلوس لقراءة القرآن وذكر الرحمن.. حتى إن الأمر هان في أعين البعض فهجروها ولم يعمروها، وكثيرون لا يصلون فيها ولا يدخلونها، فأغلقت في وجوهنا قليلا لنعلم مدى النعمة وقيمة المنة.. فنعود إليها ونتمسك بها خوفا أن تغلق فلا تفتح أمامنا أبدا.
نعمة القرآن
إن رفع المصاحف الورقية من بيوت الله في بعض البلدان، يذكر بنعمة أخرى من نعم الله كانت تستوجب الشكر.. فقد كان القرآن مبذولا أمام من أراد القراءة، قريبا من أيدي المصلين، فهجره الناس فارتفع عنهم وبعُد.. وهذا يذكرنا برفع القرآن في آخر الزمان حين يسرى عليه فلا يبقى منه في مصحف حرف، ولا في صدر إنسان منه آية.
فقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآن من بين أظهركم، قيل له: يا أبا عبد الرحمن! كيف يُنتزع وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسْرَى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء، ويصبح الناس كالبهائم” ثم قرأ قول الله تعالى: {ولئن شئنا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً} (الإسراء:86).
وقد صح هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، صححه ابن حجر والهيثمي والألباني.. وله حكم الرفع لأنه مما لا يقال بالرأي كما قال العلماء رحمهم الله.
وهذا الحديث والحدث المُخيف والخطير يدفع المسلم الصادق إلى المسارعة بالاهتمام بكتاب الله تعلما وحفظا وتلاوة وتدبّرا قبل أن يُرفع فلا يتوصل إليه. وأن يهتم بكل نعمة بين يديه فيسارع في آداء شكرها قبل أن يحرم منها.
. المبادرة بأعمال الخير
إن بين يدي الساعة فتنا عظيمة، ومدلهمات فظيعة، وأمور هائلة تجعل المسلم يبادر إلى كل خير، ويسارع إلى كل فضيلة، كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفا من أن تدركه هذه الفتن، قال عليه الصلاة والسلام: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا](رواه مسلم).
نسأل الله أن يثبتنا على دينه، ويرد عنا الفتن والأوبئة والبلايا والمحن، ما ظهر منها وما بطن.