‘);
}

التّوبة

ميَّزَ الله تعالى بني آدمَ بنعمَةِ العَقلِ التي هيَ أداةُ الإدراكِ والتَّدبيرِ والتَّفسيرِ، ثمَّ جَعلَ العَقلَ مَناط التَّكليفِ ومِيزانَ الرُّشدِ، وأَلهَمَهُ توظيفَ خَصائِصِهِ في الاختيارِ والتَّعايُشِ بينَ التَّسييرِ والتَّخيير؛ فيصيبُ تارةً ويُخطِئُ أُخرى. عن أنس بن مالكَ رَضِيَ الله عَنهُ عن رَسولِ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قال: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطًّائينَ التَّوَّابونَ)،[١] ويقولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (والذي نفسي بيدِهِ لو لم تُذنبوا لَذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم)؛[٢] في الحديثينِ يُبيِّنُ رَسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ضَعفَ الإنسانِ المَجبولِ في خلقِهِ واقبالِهِ على الدُّنيا وشَهواتِها فَتميَّزَ بكَثرةِ ذنوبِه وإعراضِهِ وغَفلَتِهِ، وهوَ أمرٌ خارجٌ عن سيطَرَتِهِ مَكنونٌ في بشريَّتِهِ، وهذا طبعُ الآدميِّ يُقبِل على الله تارَةً ويُدبِرُ أخرى، ويُراقِبُ الله مرَّةً وتُسيطرُ عليهِ الغَفلةُ مرَّةً أُخرى، لا يَخلو من المعصيةِ ولَيسَ بِمَعصومٍ عنها، وقَد خَلَق الله الإنسانَ وميَّزَهُ بالعَقلِ الذي هو أصلُ الإدراكِ، وجعَلَ بِناءهُ موقوفٌ على حُبِّ الشَّهوةِ وفاعِليَّةِ الغَضَبِ، فتُعمِلُ الشَّهوةُ فيهِ ما يَسوقُهُ للذُّنوبِ والمَعاصي إن هوَ أَمكَنَ شَهوتَهُ على عَقلِه، ويُعمِلُ الغَضَبُ فيهِ ما يسقُهُ إلى الجَبَروتِ والظُّلمِ وربَّما القَتلُ إن أعمى غضبُهُ عَقلَه. وبِهذا تميَّزَ الإنسانُ عنِ الملائِكةِ؛ فلا يَكونُ مَعصوماً، وإنَّما يأتي من الذُّنوبِ والمَعاصي ما يَشوبُ فِطرَتَهُ ويَتوبُ مِنها إن رُدَّ إليهِ ذكرُهُ وفِطرته. فالإنسانُ مُبتَلىً بِذنوبِه ومُختَبَرٌ بِها.[٣]

ولَيسَ في ذلِكَ مُواساةٌ للمُنهمِكينَ في الذُّنوبِ ولا تبرير، إنَّما فيهِ دَعوةٌ للإقبالِ على الله، والتنعُّمِ في عَفوهِ، والتذلُّلِ لهُ، والتزوُّدِ في التّوبةِ والاستِغفارِ، تَحقيقاً لِمحبَّتِهِ تعالى للمُقبِلينَ عليهِ، ورَحمَتِهِ بِعبادِهِ، ومَغفِرتهِ لِذنوبِهم، وتَجاوزِهِ عن الخطَّائينَ التَّوابين.[٤][٥][٦]