الروابط الأسرية هدف لا يحيد عنه إلا من فسدت فطرته، وتعالت نعرات الأثرة وحب الذات فيه، وتفوق قصر نظره عن تدبيره وحكمته؛ إذ لا يمكن لأحد أن يعظم من مكانته إلا بقدر ما يستطيع أن يحفظ لنفسه مكانتها بين أهله وأسرته. عمل التقدم التكنولوجي على زيادة الأعباء الموكلة لكل شخص، وعدم كفاية الوقت لإتمام كافة المهام المنوطة بالمرء القيام بها، ما جعل كل منا يختار بين الأعباء المختلفة ويقارن بينها ويختار الأولوية فيها، ويترك ما كان حقه التأخير، وبهذا تتأخر الصلات، وتقل الروابط الأسرية لمطالبة كل منا بتوفير تكاليف الحياة. وتزداد الحاجة لإعادة بناء الروابط الأسرية من جديد لمواجهة تحديات الفرقة، وانتشار الفتن في المجتمعات، والزيادة المضطرة في معدلات الجريمة والفساد الأخلاقي في مجتمعاتنا، ولزيادة القدرة على تحقيق إنتاجية أعلى.
الأسرة
الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، وهي أهم علاقاته الاجتماعية، وتتكون من مجموعة من الأفراد، يشكل كل فرد فيها مجموعة من الأفكار والقيم الروحية والعقلية والاقتصادية والعقائدية، تربط بين أفردها صلة القرابة والدم، أو صلة النسب والمصاهرة، وتقوم على الحب وتحمل المسؤولية وتربية الأولاد بطريقة سليمة؛ بهدف التأثير في المجتمع إيجابيا. وتنقسم الأسرة إلى نوعين: الأسرة النواة وهي المكونة من زوجين وأطفالهما، وتتسم بسمات أولية أهمها قوة الرابطة، والاستقلالية، وهي وحدة اجتماعية مستقرة لفترة مؤقتة، تنتهي بوفاة الأبوين واستقلال الأبناء في أسر نووية جديدة. والنوع الثاني هو الأسرة الممتدة أو الجيلية، وهي التي تتكون من عدة أسر نووية، تربطهم علاقات مشتركة كالقرابة والدم، وتنتشر في المجتمعات الريفية والبدوية، وتتكون هذه الأسر من ثلاثة أجيال فأكثر بداية من الجد وحتى الأحفاد، وتلتزم عادة بقيم المجتمع المحيط وثقافته القيمية، وتعتبر وحدة اقتصادية فيدرالية يرأسها الجد الأعلى.
أهمية الروابط الأسرية
وللأسرة و الروابط الأسرية دور مهم في المجتمع، إذ لا يمكن لمجتمع أن يحقق أهدافا جمعية دون أن تتحقق في اللبنات الأساسية له؛ لأن الأسرة هي العمود الفقري لبناء أي أمة تستهدف بناء الحياة السليمة على كافة الأصعدة، وتتبلور أهمية الأسرة في المجتمع في النقاط التالية:
- نجاح واستقرار المجتمع مرتبط ارتباطا وثيقا باستقرار الأسرة، وزيادة ترابط أفرادها، فكلما زادت الروابط الأسرية قوة كلما قلت المشكلات الناجمة عن التفكك الأسري كظاهرة أطفال الشوارع وغيرها، ويؤكد علماء النفس أن الأسر التي يحوطها العنف الاجتماعي والتوتر يميل أفرادها للعنف المجتمعي؛ لأن العنف لا يولد إلا عنفا، والأسر التي تتعايش في جو من السكينة والهدوء يقدم أبناؤها نموذجا للتميز والبذل والتقدم.
- الأسر الناجحة تزيد من القوة القادرة على الإنتاج والعطاء في المجتمع، ويصبح أفرادها لبنات في طريق تحقيق التنمية المستدامة، ويؤكد علماء الاجتماع أن الأسر التي تتعايش في جو من تقديم الحقوق الكريمة في أوقاتها المناسبة كاللعب للأطفال، والتعليم للنشء، تقدم نموذجا للمصلحين الذين يبحثون بشكل جاد عن الحق والعدل وإقرار السلام المجتمعي.
- الأسرة التي تغرس الفضائل في أبنائها وتحارب الرذائل في نفوسهم تقدم خدمة للمجتمع بمنع انتشار الفواحش فيه كالمخدرات وانتشار الصفات الذميمة كالتحرش وغيره.
الروابط الأسرية في الإسلام
استهدف الإسلام منذ اللحظة الأولى أن يبني مجتمعا متراحما متعاطفا، تربطه المحبة، ويوثق أواصره الإخاء، ويحكمه حب العطاء والبذل وتقديم الخير للمجتمع، والأسرة هي أهم جزء من المجتمع، وهي أكثر اللبنات التي تحافظ على وحدته وتماسكه، وتفرض على المجتمع سلوكيات يتخذها، ونورا يهيمن عليها، لذلك أولاها الإسلام رعاية خاصة، وأمر برعاية حقها وتثبيت بنيانها عن طريق صلة الأرحام وبر الوالدين.
ولأهميتها القصوى، قرنها الله ورسوله في القرآن والحديث الشريف بعبادة الله وعدم الإشراك به، وجعلها ردفا للصلاة والزكاة، وأمر بها جميع الأمم من لدن ابني آدم وحتى قيام الساعة، بل جعل الله صلة الأرحام وكسر الأوثان وتوحيد الله وعدم الشرك به أولى لبنات الدعوة إلى الله.
وأوصى نبي الله محمد- صلى الله عليه وسلم- بصلة الأرحام وقرنها بإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلاة القيام، متوعدا من يفعل ذلك بأن جزاءه الجنة يدخلها بسلام، وخوف النبي صلى الله عليه وسلم من قطع الأرحام فجعلها شرطا من شروط الإيمان من أداها فقد آمن بالله واليوم الآخر، ومن قطعها فقد نقص دينه بقدر ما نقص منها. ويهدف الإسلام من تكوين الأسرة المسلمة الصالحة النافعة، التي يعيش الناس في كنفها إلى تحقيق غايات سامية ومقاصد عظيمة منها:
الاستكثار: وزيادة أعداد المسلمين في أصقاع الأرض، وبناء أسر ممتدة تبدأ بالزوجين ولا تنتهي حتى قيام الساعة؛ ضمانا لاستمرار الدعوة إلى الله والتمسك بالقيم السماوية السمحة، وجعل الإسلام المرأة الصالحة ثلث سعادة المرء وقسم الثلثين الآخرين بين المسكن والمركب، وجعل نعمة الولد إحدى ثمانية نعم يهفو الإنسان إليها.
المشاركة في تحمل تبعات الحياة: القائمة على الألفة بين الزوجين، التي تستحيل الحياة بدون التوافق بينهما، وتحمل تبعات الحياة مقصد من مقاصد الحياة الزوجية في الإسلام.
تربية الأجيال الجديدة: وهي الغاية القصوى من تكوين أي أسرة، وهي تربية الأبناء تربية سليمة قائمة على حب الخير والبذل لإيصاله لكل الناس، إذ لا يمكن أن يكون هدف الزواج الاستكثار وإلقاء الأطفال في الشوارع دون رعاية، وتكون قوة التربية بقوة الروابط الأسرية القائمة على القيم الإسلامية الراسخة منذ نحو 1400 سنة.
كيف نستعيد الروابط الأسرية ؟
ويلزم لاستعادة الروابط الأسرية قوتها في عصر تزدحم فيه الأوقات بالأعمال، وتزداد فيه السرعة نحو تنفيذ المهام المختلفة، وتقل فيه الأوقات اللازمة لتنفيذ المهام المتزايدة والتي لا تكفيها الأوقات، أن نقوم بالتالي:
استغلال أوقات الاجتماع اليومية في تبادل الحديث والخبرات، وتحقيق التواصل الفعال في أثناء هذه الأوقات كأوقات تناول الطعام وأوقات مشاهدة التلفاز، والاحتفالات المختلفة التي تأتي على فترات متباعدة.
تشارك المسؤوليات معا، ورفع قيمة المسؤولية الواحدة، واقتسام الوظائف مع تبادلها من وقت لآخر، كأن يقوم الزوج بالطهو يوم أجازته، أو حياكة ما انقطع من ثوبه.
صلة الرحم، وتبادل الزيارات العائلية، التي حض عليها الدين الحنيف، ما يسمح بتوسيع دائرة الروابط الأسرية بين كل الأفرع المتاحة من العائلة، وتكون صلة الرحم على أشكال عدة تبدأ بالزيارات الدورية ولا تنتهي عند حد الاتصالات الهاتفية، وتقديم العون لفقراء الرحم، وتبدأ الصلة بالأقرب فالأقرب.
تبادل التقدير، وإيصال الشعور بالثقة، والشعور بالانتماء والمحبة، كلها وسائل تزيد من قوة الروابط الأسرية، إذ إن الحاجات البشرية تحتاج لما يعضدها ويقويها، وأول هذه الحاجات تتمثل في الحاجة النفسية، التي تأتي على رأسها الحاجة إلى التقدير.
أخيرا، عليك أن تزيد من ترابطك الأسري، وأن تقوي أواصر المحبة بينك وبين أفراد عائلتك، سواء أكانت عائلتك النواة التي تتكون من زوجك وأولادك، أو عائلتك الممتدة من جدك وجدتك حتى أحفادك وأولادهم.