كيف يمكنك تملك ملكات الإبداع في أي وقت تشاء؟

من العجيب أنَّ الإبداع لا يزال عمليةً بعيدة المنال نسبياً، ولا سيما بعد أن تحققت اكتشافات عظيمة في العديد من المجالات الأخرى؛ فقد رسم العلماء أول خارطة للجينوم البشري في عام 2003، فلِمَ لم نتوصل حتى الآن إلى طريقة تجعلنا نبدع ونبتكر أفضل ما يمكننا متى نشاء؟

Share your love

تُعرِّف القواميس اللغوية الإبداع بأنَّه القدرة على ابتكار أفكار جديدة ومفيدة؛ إلا أنَّ الإبداع يمتدُّ ليشمل طيفاً واسع يتعدى ذلك التعريف؛ فنحن جميعاً نستخدمه بصورة يومية، سواء كان ذلك في وضع جميع الأواني المتسخة في جلاية الصحون الممتلئة أصلاً، أم في اختيار الملابس التي سنرتديها بعد تأجيل الغسيل أسبوعاً آخر؛ بيد أنَّ للإبداع أيضاً أهله من الفنانين الذين لطالما غرَّدوا خارج السرب، بدءاً من النحاتين والرسامين الذين عاشوا في القرن الرابع عشر ووصولاً إلى الموسيقيين والمغنِّين في يومنا هذا.

أُجرِيَت العديد من الدراسات حول الأساليب التي تعزِّز الإبداع؛ إذ يقول العلم إنَّه عليك شرب الشاي، أو اختيار بيئة عمل فوضوية، أو العمل في مقهى مزدحم للإصغاء إلى همهمات الناس، ولكن هذه الأمور ما هي إلا مجرد حلول مؤقتة، ولن تجعل منك مفكِّراً مبدعاً بالفطرة حيث يكمن السر والسحر في آنٍ معاً.

شاهد بالفيديو: 9 طرق لتنمية الإبداع في نفسك

[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”200″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/_-TBfdg9Dz8?rel=0&hd=0″]

ما الذي يجعل بعض الناس أكثر إبداعاً من غيرهم؟

تشير دراسة نشرتها جامعة هارفارد (Harvard University) في أوائل عام 2019 إلى أنَّ الأفراد الذين يعملون في المجالات التي تتطلب الإبداع يستخدمون شبكات دماغية مختلفة حينما ينجزون مهام معينة، وخلال التجربة، وجد الباحثون أنَّ العمليات الإبدعية الاستثنائية هذه عملت في الوقت ذاته على تنشيط أنظمة الدماغ التي تعمل عادةً بمعزل عن بعضها.

على سبيل المثال، تنشط “الشبكة الافتراضية” (default network) عادةً حينما نمارس التفكير التلقائي كأحلام اليقظة، أو نستعيد الذكريات، أو نفكر في المستقبل، أو نترك أفكارنا تسرح بعيداً دون التركيز على هدف بعينه.

يتوقف نشاط هذه الشبكة عادةً حينما تنشط “شبكة التحكم التنفيذي” (executive control network)، وذلك عندما تحتاج إلى أن تولي اهتمامك وتركِّز على أمر محدد يشغلك.

أظهرت نتائج الأبحاث أنَّ أولئك الذين خرجوا بأفكار إبداعية تعمل لديهم “الشبكة الافتراضية” (default network) و”شبكة التحكم التنفيذي” (executive control network) في الوقت ذاته، بينما تنشط كل شبكة على حدة عند الناس الأقل إبداعاً؛ وذلك بالاعتماد على نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI).

خلاصة الحديث هي أنَّ الأشخاص المبدعين قادرون على تنشيط مناطق في الدماغ لا تعمل عادةً معاً؛ الأمر الذي يُعدُّ مسؤولاً عن تجلِّي الرؤى الإبداعية.

إذاً، كيف يتمكن المحترفون المبدعون من فعل ذلك، وهل ثمة طقوس مشتركة يستخدمونها لتعزيز عمل أنظمة الدماغ هذه؟ لاكتشاف الإجابة عن هذا السؤال، تحدَّثنا إلى عدة فنانين حول كيفية تمكُّنهم من الولوج إلى العملية الإبداعية وتعزيزها.

تقول فنانة الرسم على الزجاج آنا كورنز (Anna Curnes): “أستلهمُ جميع أعمالي إما بسبب شعورٍ أرغب بأن أوصله للناس، أو رؤيةٍ تتشكل أمام ناظري لما ستبدو عليه اللوحة بعد إنهائها والأحاسيس التي آمل أن تُشعِرَك بها”؛ إذ يتطلب العمل على الزجاج الساخن دقةً وصبراً والاعتراف أحياناً بأنَّ للزجاج “رأيه” الخاص بما ستفعله به.

وبدلاً من أن تقلق بشأن تطبيق “فكرتها الكبيرة” التالية على أرض الواقع، تتخذ كورنز (Curnes) منهجاً قائماً على الاندماج مع الواقع في الفن؛ لتكتشف أنَّ الإلهام الفني يتجلى طبيعياً حينما تسعى إلى ما وراء الجمال والمغامرة، وتقدِّر “الأمور الصغيرة التي تمنح للحياة عبثيتها وروعتها”.

توضِّح كورنز (Curnes) قائلةً: “نظراً لأنَّ الإلهام يكمن في كل مكان، أشعر أنَّ الإبداع يتمحور حول جذب وميض غير ملموس من السحر وتحويله إلى هيئة ملموسة أياً كان الشكل الذي يتَّخذه”. تُفضِّل كورنز (Curnes) العمل في جوٍّ تسوده “المشتتات” وتراها بيئة عمل مثالية لتعزيز إبداعها؛ فهي تعمل برفقة ثلاثة فنانين في نفخ الزجاج يتناوبون على اختيار الموسيقى المبهجة ويتجاذبون أطراف الحديث، كي يحافظوا على شرارة الإبداع متَّقدة.

على الجانب الآخر، يعمل غيرها من الفنانين كالفنان في مجال الموسيقى الإلكترونية والمنسِّق الموسيقي “بيج” (Paige) في إطار عمل أكثر منهجية؛ حيث يقول: “في مجال يتسم بالتنافسية، يكمن سر النجاح في إنشاء قائمة من الأمور المحددة التي تساعدك على الولوج إلى قوتك الإبداعية الاستثنائية؛ فبالنسبة لي، هناك بعض الأمور التي ينبغي أن أقوم بها لابتكار أفضل موسيقى ممكنة”.

يتضمن ذلك مختلف الأمور بدءاً من الحرص على أخذ قسط كافٍ من النوم، وصولاً إلى تناول فنجان القهوة في الصباح، والاستماع إلى موسيقى مبهجة أو تدوين صوتي يساعد على تطوير الذات في أثناء التجول في الحي، كي ينعم بحالة ذهنية تتسم بالاسترخاء والإلهام والحيوية وتعزز إبداعه؛ وأما حينما ينخفض أداؤه، فيخرج ليأخذ استراحةً قصيرةً على الفور، إما في الخارج أو في مكان يدخله ضوء طبيعي؛ ذلك لأنَّ الغرف المظلمة تؤثِّر سلباً في إبداعه.

يبدو أنَّ روتينه هذا ينجح معه؛ إذ حصدت نسخته الجديدة من أغنية “لاند داون أندر” (Land Down Under) اثني عشر مليون مشاهدة، وما زال الرقم في ازدياد مستمر.

تتَّبع الرسامة هولي هاتام (Holly Hatam)، والتي صمَّمَت رسومات كتاب “الفتاة العزيزة” (Dear Girl) الأكثر مبيعاً في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (New York Times)، طقوساً صباحيةً بصورة دائمة؛ حيث تعلِّق قائلةً: “حينما يمر يوم لا أتَّبع فيه هذا الروتين، لا يتدفق إبداعي بسلاسة”.

تستيقظ هاتام (Hatam) في حوالي الساعة 5:30 صباحاً يومياً، ثم تمارس التأمل، وتدوِّن في دفترها الأمور التي تُشعِرها بالامتنان مع كوب من الشاي بجوارها.

ومع ذلك، يؤكد بيج (Paige) أيضاً: “أنَّه ليس هناك روتين محدد يناسب الجميع؛ إذ تكمن أهمية الأمر في تحديد الممارسات التي تجعلك أفضل نسخة من نفسك، لتجد بعدها طريقةً لتُدرجها في يومك أو أسبوعك؛ لأنَّها الأمور التي تضمن أن يصل إبداعك من خلالها إلى ذروته”.

يقدِّم المهندس المعماري ومؤسس شركة “دي إم إي سي آركيتيكتشر” (DMAC Architecture)، دواين ماكيوين (Dwayne MacEwen)، نظريةً مماثلةً حول الإبداع؛ حيث يقول: “لا يكمن السر في ما في جعبتك من حيل؛ بل في ثقتك في العملية الإبداعية بحد ذاتها”.

يمكن أن يتجلى إبداع ماكيوين (MacEwen) بصورة عفوية وآنية تماماً؛ لذا ينبغي أن يكون حاضر الذهن ومتيقظاً دوماً؛ إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّه ينتظر الإلهام كي “يهبط عليه”؛ إذ يعلِّق قائلاً: “حينما أكون على استعداد لأن أبذل جهداً وأضع ثقتي في العملية الإبداعية -أي الجلوس والرسم والانغماس في المشروع انغماساً تاماً- فإنَّها تكافئني بتقديم حلول رائعة ومبتكرة”.

هل ثمة أمر معين يُثير الإبداع؟

ربما يكمن السر في تجنُّب القيام بأمور معينة، كالجلوس في غرفة مظلمة كما اقترحت بيج (Paige)؛ حيث ذكر العديد من الفنانين الذين أُجريت مقابلة معهم أنَّهم يضبطون هواتفهم على وضع الصامت، ولا يتحققون من رسائل البريد الإلكتروني، ويتخلصون من جميع المشتتات التي قد تلهيهم عن إنجاز المهام التي يعملون عليها.

يوضِّح الرسام التجريدي المتخصص في رسم الجداريات كولتون سيجر (Colton Seager) هذه الفكرة توضيحاً أفضل بقوله: “لا ينبغي أن يتمحور الفن حول “عدد الإعجابات” التي تحصدها اللوحات، أو عدد المتابعين الذين سأحصل عليهم من خلال العمل عليها، أو الأموال التي سأجنيها لقاء بيعها، أو حتى إذا كانت ستنال إعجاب الناس؛ ورغم أنَّ هذه الأفكار تُعدُّ مغريةً للغاية، إلا أنَّها تُعرقِل العملية الإبداعية، وإنَّ أهم جانب في عمليتي الإبداعية هو أن يكون عملي بمثابة انعكاس لجوهر ذاتي الحقيقي”.

يعرف العالم قاطبةً أنَّ قيمة الفن تُعدُّ أمراً شخصياً للغاية؛ ولكن يبدو أنَّ القيمة الإبداعية -بين الفنانين على الأقل- ثابتة إلى حد ما، والذين يصفون العملية الإبداعية بأنَّها عمليةٌ “مفاجِئة” و”ملهِمة”؛ سواء بطبيعتها أم بأشكال أخرى من الفن؛ إلا أنَّه في نهاية المطاف، يصف الكثيرون الإبداع بأنَّه أسلوب حياة.

تقول المؤلفة هيدي غودريتش (Heddi Goodrich): “إنَّ الإبداع ليس مجرد أمر يحتكره الفنانون؛ بل يتوارى في ثنايا كل ما في حولنا، ويتأصل في إبداع الخالق منذ الانفجار الكوني العظيم الذي تكوَّنت على أثره المجرات، وانهمر سيل الكائنات الحية من رحم الحياة؛ كما أنَّه أصل جوهر الإنسان وما يدفعنا للاستمرار والمضي قدماً”.

عثرت غودريتش (Goodrich) على إلهامها الإبداعي فيما قد يعدُّه بعض الأشخاص مجرد نشاط روتيني، وهو التحدث بلغة ثانية؛ فهي تتكلم لغتها الأم الإنجليزية إلى جانب الإيطالية؛ حيث ألَّفت روايتها الأولى “تائهة في الحي الإسباني” (Lost in the Spanish Quarter) باللغة الإيطالية بشكل كامل؛ وذلك بعد أن اكتشفت أنَّها لا تستطيع إثارة ذلك الدفق الإبداعي المميز إلا عبر الكتابة باللغة الإيطالية؛ إذ وصفته بأنَّه “المكان الذي أستلهم منه جُملاً رائعةً، وكأنَّها تأتيني من خارج ذاتي، وكل ما عليَّ فعله بعدها هو كتابتها فحسب”.

عبَّر الكثيرون غيرها عن هذا المفهوم أيضاً؛ أي فكرة أنَّ العمل الفني يتجلى أمامك من تلقاء نفسه، بدلاً من أن يتخيله المرء من الصفر؛ فقد يأتيك الإلهام في أوقات لا تتوقعها، ولكن يمكنك الاحتفاظ بالأفكار التي تراودك كملاحظات على هاتفك قبل أن تضيع منك.

فقد تحدثت مؤلفة كتاب “طعام، صلاة، حب” (Eat, Pray, Love) إليزابيث جيلبرت (Elizabeth Gilbert) في حديث على “منصة تيد” (TED Talk) في عام 2009 عن هذا الشعور بالذات، وكيف أنَّها تطلب مازحةً من الأفكار التي تأتي إليها في أثناء محاولة النوم بأن تعود إليها غداً.

رغم أنَّ هؤلاء الخبراء المبدعين يستخدمون عمليات مختلفة تماماً للوصول إلى ذروة إبداعهم الفني ونتاجاتهم، إلا أنَّهم يتفقون جميعاً على أنَّ الإبداع لا يُعدُّ أمراً ملموساً؛ بل يرونه كامتداد لأنفسهم، مثله مثل النظارات التي تساعدك على رؤية العالم بصورة أوضح، وليس كزرٍّ تستطيع تشغيله وإيقافه متى ما شئت، ربما هذا هو السبب الذي لا يجعل شبكاتهم الدماغية تتوقف عن العمل أبداً.

لا يبدو أنَّ هناك سراً أو إكسيراً معيناً يساعدك على إثارة إبداعك، إلا أنَّ هذا بالضبط ما يمنحه التميُّز؛ وكما قال الرسام مايكل أنجلو (Michelangelo) جملته الشهيرة: “تخيلتُ ملاكاً يقبع أسير الرخام؛ فظللتُ أنحتُ حتى حرَّرته”، فقد يكون مفتاح الولوج إلى إبداعك هو ببساطة الاستسلام له ريثما تتجلى أمامك الوصفة السحرية للدخول إلى ذلك العالم من أوسع أبوابه.

 

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!