كتب – المُحرِّر السياسي

رغم مرور شهر كامل على الكارثة التي ألحقها انفجار مرفأ بيروت, والأضرار التي أحدثها في البنى التحتية والعمرانية والاقتصادية للعاصمة اللبنانية, المُنهكة بالأزمات الاقتصادية والمعيشية والخدمية وانهيار سعر صرف الليرة مقارنة بالدولار الأميركي, وارتفاع المديونية ونِسب الفقر والبطالة وحالات الانتحار وغيرها من المشكلات الأمنية والإجتماعية, فإن استمرار التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين النخب السياسية والحزبية, وتلك المحمولة على ابعاد مَذهبية وطائفية اضافة الى التدخلات الخارجية التي لا تتوقّف, ولتي تجلّت مؤخراً في الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون, ومثله فعل نائب وزير الخارجية الأميركية ديفيد هيل وبعده مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر, خصوصاً ما حفلت بهما هذه الزيارات من اشارات وتلميحات, بل رسائل مُعلنة وأخرى مُضمرَة تحمل في طياتها تهديدات بعدم التمويل او المساعدة في إعادة إعمار مرفأ بيروت, كذلك الأضرار التي ألحقها بالمنازل والأبنية والمؤسسات من حوله. خاصة التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي حمّل فيها الطبقة السياسية مسؤولية ما حدث وسيحدث, في حال عدم تلبيتهم الشروط التي وضعها لبدء عملية الإصلاح النقدي والمالي والسياسي.

ما يلفت الإنتباه هنا هو «الكيفية» والسرعة التي تم بها تكليف السفير اللبناني السابق في برلين مصطفى أديب لتشكيل حكومة جديدة، بعد أن «أُجبر» رئيس الحكومة السابقة حسان دياب (الذي يرأس الآن حكومة تصريف أعمال) على الإستقالة. راحت بعدها الأحزاب والكتل البرلمانية اللبنانية تضع شروطاً وتتصوّر شكل وطبيعة الحكومة التي تريدها، ما عكس ضمن أمور أخرى عمق الهوّة التي تفصل بين تلك الطبقة السياسية التي اتهمها ماكرون بالفساد وعدم المسؤولية وغيرها من الأوصاف, ثم فوجىء الجميع بإعلان التوافق على تسمية مصطفى أديب, الذي جاء من خارج الطبقة السياسية ولم يتسلّم اي منصب باستثناء الوظيفة الحكومية, ثم لاحقاً تم ترشيحه من قِبل رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي (عمل اديب مستشاراً له), على عكس حسان دياب الذي كان وزيراً للتعليم العالي في حكومة سابقة, وكانت المفاجأة الأكبر أنه حظي بدعم «90» نائباً من أصل «121» هم عدد أعضاء مجلس النواب اللبناني حالياً (بعد استقالة 7 نواب).

ان يتم استيلاد اسم مصطفى أديب ثم لاحقاً اسماء حكومته, التي يدور جدل وتجاذبات حول «نوعيتها», بمعنى هل تكون حكومة اختصاصيين ولا تُشارِك الأحزاب فيها, بل غير مسموح لها أن تسمي أحداً من وزرائها, كما كانت الحال عند تشكيل حكومة دياب، يعني ان مهمة مصطفى أديب في حكومته المقبلة لن تكون بالصعوبة التي كانت عليها حكومة حسان دياب التي تعرضت لحملات شرسة, ليس فقط باتهامها بأن حكومة اللون الواحد, بل ودائماً في اعتبارها ألعوبة في يد تحالف تيار رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) مع حزب الله, الى أن تم إسقاطها بقرار من رئيس مجلس النواب نبيه برّي, الذي أعلن ان دياب «تجاوز صلاحياته» عندما أمهل مجلس النواب شهراً للتوافق على قانون انتخاب جديد واجراء انتخابات مبكرة, ما منح الفرصة لـ«برّي» لإسقاطه, عندما دعا مجلس النواب لمساءلة الحكومة ورئيسها. الأمر الذي عجّل باستقالة الحكومة ليُعيد بِرّي اعلان موقفه المعروف بأن مرشحه «الوحيد» هو سعد الحريري. لكن انفجار المرفأ خلط الأوراق بعد أن كان وليد جنبلاط (كتلة اللقاء الديمقراطي) وسمير جعجع (كتلة الجمهورية القوية) وكتلة لبنان القويّ (جبران باسيل والتيار الوطني الحر) أعلنواعدم تسميتهم الحريري رئيسا للحكومة المُقبلة, ما كان سيُفقد حكومته في حال شكلها «الميثاقية», لأن أكبر كُتلتين مسيحيتين هما «القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر» لن تمنحاه الثقة أو تُشاركانه الحكومة.

الرئيس الفرنسي أعلن أنه عائد للبنان في كانون الأول المُقبل (بعد ثلاثة أشهر) مُهدداً بأنه لن يُقدّم أو يدعم اي مساعدات للبنان, اذا لم يُحقّق المسؤولون ما كان طالب به من اصلاحات, وإن كان ماكرون تبنّى مواقف سياسية لافتة عندما قال: إن حزب الله هو مُنتخَب في البرلمان وهو جزء من اللعبة السياسية. الأمر الذي اثار خصوم حزب الله بل ولم يتردّد بعض هؤلاء في الغمز من قناة الرئيس الفرنسي (ومن حزب الله بالطبع), حيث تم اتهام الأخير بأنه مُنخرط في تسوية فرنسية أميركية ايرانية, تحضيراً لمشهد جديد في المنطقة يبدأ من لبنان. فيما كان ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركية يدير ظهره للمسؤولين اللبنانيين الرسميين ولم يلتق أحداً منهم، بينما حرِص على لقاء ممثلين من منظمات وهيئات المجتمع المدني اللبناني (وهي بأعداد كبيرة), وكان ان «صدمهم» عندما قال لهم: أنهم وما يزعمون من ثورة 17 تشرين ليسوا مُؤثرين, ولا اهمية أو دوراً حيوياً لهم في المشهد اللبناني. وكان موقفه من حزب الله مُلتبساً وإن كان أعاد تكرار موقف بلاده بأن الحزب مصنف أميركياً بـ«الإرهابي», في الوقت ذاته الذي بدأ فيه وكأنه «يتمايز» قليلاً عن الموقف الفرنسي في هذا الشأن.

ليس بمقدور المُتابع للمشهد اللبناني المأزوم والمتفجّر وعالي الخطورة, التكهّن بما يمكن أن يحدث خلال المئة يوم القادمة (عندما يعود ماكرون الى بيروت في زيارة ثالثة), وإن كان لا يمكن تجاهل العامل الإقليمي كما العامل الدولي في لعبة الأمم الدائرة الآن في لبنان وعليه, بعد رفض تل أبيب طلب لبنان ترسيم الحدود البحرية, حيث كانت المسألة هذه «ورقة» ضغط في يد الأميركان, سواء عبر الزيارات التي يقوم بها ديفيد هيل والموظف الأقل أهمية ديفيد شينكر لبيروت وتل أبيب, كلما ارتفع منسوب التوتر على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة, أم في تفاقم الخلافات بين أقطاب النخبة السياسية المُتحكِّمة بالمشهد اللبناني, وهي التي تواصِل تبادل الإتهامات بالفساد والمسؤولية عن تفجير مرفأ بيروت. وكل يُلقي باللائمة على الآخر فيما يتنصّل كل هؤلاء مما حدث, وكأنهم كانوا بعيدين تماماً عن مواقع المسؤولية في وزارات وهيئات ومؤسسات على علاقة مباشرة بما يجري في مرفأ بيروت.

وإذا كان الغياب العربي بات جلياً عن الأزمة اللبنانية, وبروز بل طغيان الدوريْن الفرنسي والأميركي, حيث راجت قراءات وتسريبات تتحدث عن ضور اخضر أميركيا لماكرون بالتقدم نحو الساحة اللبنانية، فإن التجربة بل التجارب الميدانية تؤكد ان واشنطن لا تسمح بانفراد فرنسي في الساحة اللبنانية لأسباب محض اسرائيلية, خصوصاً حيث أمن اسرائيل اولوية أميركية, كذلك في ما خص تطبيق «قانون قيصر» على لبنانيين مُتهمين بمساعدة سوريا وحزب الله, اضافة دائماً الى ان ادارة ترمب لا تتخلّى عن «ساحة» تعتبرها جزءاً حيويا من معركتها الرامية إلى تحجيم الدور الإيراني وممارسة الضغط على طهران للرضوخ لشروطها في ما يخص الملف النووي, وخصوصاً برنامجها الصاروخي الباليستي الذي ترى فيه تهديداً لربيبتها…اسرائيل.