حين أكون في الصفّ الأول أمام الإشارة الضوئية، وحين يتبدّل اللون إلى الأخضر، لا أحرّك سيّارتي قبل أن أسمع زاموراً عصبياً من الخلف. ليس هذا لأني أعاني عمى الألوان، فلا حاسة لديّ تعمل بكامل عافيتها، سوى البصر، بل لأني لستُ متأكداً..
ولستُ متأكداً إن كنتُ أمشي في المسار الصحيح، فدائماً ما أستعين بنظام الملاحة المثبّت في السيارة حتى لو كنتُ ذاهباً إلى بيتي أو عائداً منه. ليس هذا لأني هارب من سجلات المصابين بالزهايمر، فلا جزء في دماغي يعمل بشرف، مثل الفص الصدغي، بل لأنّي لستُ متأكداً من شيء.
**
يقول الدستور إن لي الحريّة بفعل كل ما لا يُضرّ بالآخرين، لكنّي استنكفت عن هذا الحق، ليس لأنّي لا أتقن العيش بعيداً عن ظلّ “البيادة”، بل لأني لستُ متأكداً من قدرتي على تفادي الكمائن.
ورغم أني قرأتُ في الجريدة الرسمية، ببصري العفيّ، أن حق التظاهر ضدّ كل ما لا يعجبني مكفول لي، إلا أني حرصتُ طوال عمري على تجنّب الطرق التي يُسمح فيها بإسالة الدمع، ليس لأن قدميّ رخوتان، أو لأن قنوات الدمع مسدودة، بل لأني لستُ متأكداً من مدة الكفالة.
**
أحببتُ نساء بعدد الشَّعر الأسود في رأسي حين كنتُ فتياً، فقد استجبتُ في مراهقتي الأولى لنصائح الشاعر المخزومي عمر بن أبي ربيعة، إذ يقول “سلامٌ عليها ما أحبّت سلامَنا”، وتبعته مُسلّماً حتى “العجز” حين يفْجُر في القول “فإن كرهته فالسلام على أخرى”.
بعد سنوات لم يعد الأسوَد فيها هو الغالب في رأسي، سأزيد على قول ابن أبي ربيعة، أني قد أحدثتُ ثقباً في قلبي حتى لا تستقرّ امرأة على كتفي. لهذا لستُ متأكداً إن كنتُ سأجد شعرة سوداء في رأسي حين أضيعُ مثل أي فتى.
**
لستُ متأكداً من شيء. لا أعرف إن كنتُ أسكن في شرق المدينة أم في غربها، وإن كنتُ على يسار “الدولة” أم على يمينها. لستُ متأكداً إن كنتُ فوق خطّ الفقر أم تحته. لستُ متأكداً إن كنتُ الآن في داخل الزجاجة أم خارجها، ولستُ متأكداً إن كان يحق لي السؤال إن كان الإنسان الطبيعي يستطيع الحياة، كل الحياة، عالقاً في عنق الزجاجة. لستُ متأكداً حتى من صورتي، فقد كنتُ سارحاً غير متأكد أنها الحياة.
**
لستُ متأكداً من شيء. أريد أن أمحو ما سبق.