تقطعت بهم السبل، وباتوا بعيدين عن الأهل والأحبة والأصدقاء. وآخرون في البلد نفسه، لكن الظروف القاهرة تمنع من مشاركة الآخرين أفراحهم وأحزانهم عن قرب. إنه زمن كورونا؛ الزمن الذي تبدلت فيه الأشياء، وغدت اجتماعاتنا مرصودة بالخوف والانصياع لقوانين كثيرة لم نعتد بعد عليها.
الأمر أشبه ما يكون بالمرور من قلب جبل بدهليز مظلم، فأنت تدرك أنك تمشي فقط من أجل أن تجتاز المسافة التي لا تدري كم طولها، وأنك لن تحقق أكثر من ذلك، فعلى الناحية الأخرى سينتظرك مسير آخر مبهم، ولكن على أقل تقدير، ستمشيه تحت الضوء والشمس.
هكذا نسير اليوم مع كورونا الذي تكفل بتهشيم مشاعرنا، وقسا عليها كثيرا. جرع الآلام لكثيرين من دون رحمة، ومزق قلوبا لأناس يعيشون بيننا، ليزرع فيها آلاما لم يختبروها من قبل، فهم على قيد الحياة ولكن أرواحهم متعبة ومرهقة ومحملة بالهم والأسى.
القهر يستوطن في نفوس كثيرين ممن لا يملكون شيئا سوى بضع كلمات وأدعية يخطوها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، و”فضفضة” علها توصل شيئا من ألم يعتري قلوبهم. يتحدثون عن أهل وأحبة وحتى أصدقاء رحلوا بشكل لا يليق بهم، ومن دون أن يسمعوا عبارات حب، تصلهم عن قرب.
هذا ما فعله “كورونا” اللعين، حينما جمد كل شيء، وجعل كل واحد يذوق الأسى واللوعة وحده، ولا يستطيع أحبته الوصول إليه، والتربيت على كتفه، وأن يهمسوا في أذنيه: “لا تخف؛ نحن معك”.
أشخاص كثر رحلوا من بيننا في عصر كورونا، وذاقوا مرارة الوحدة. تعذبوا بأوجاعهم. وآخرون تعذبوا بغياب عزيزين، وهم يلعنون كل يوم ذلك الفيروس الذي زرع الحواجز وغير شكل العالم، وأبعد الناس عن كل من يزرع الفرحة على شفاههم ويبث الحب في قلوبهم.
في البلد نفسه، أشخاص يعيشون قريبين جدا، ولا تفصلهم سوى كيلومترات قليلة عن بعضهم بعضا، ولكن لم يكن بإمكانهم التواجد مع أحبتهم كما ينبغي. البيوت أصبحت أشبه بسجون تحجب الزائرين، وتمنع الخروج إلى أمد لا يعلمه أحد.
ولعل ما يحز في البال حقا، هم الموتى الذين انتهى أجلهم خلال هذه الجائحة، وكيف أن عددا قليلا من الأهل تواجدوا معهم ودفنوهم مودعينهم إلى الأبد، وبلا مراسم تليق بهم. إنه لأمر يحز في النفس كثيرا.
والشعور الأشد قسوة سيكون على من يعيش في ديار الغربة. إحساسه بالمرارة والضعف وقلة الحيلة لا يمكن وصفه أو تفسيره، وسوف يظل وجعا طويلا وممتدا ينخر في الروح، وسوف تتراجع قدرته على التحمل، فيقبض على قلبه علّ الألم يسكن ولو قليلا، لكنه يعود ليتفجر من جديد وهو يلعن “غربةً” سرقت أحباءه منه في عز احتياجه إليهم، واحتياجهم إليه.
“سجن كبير تجاوز حدود الدول”.. ذلك شعور المغترب مع جائحة كورونا، وهو يعيش في بلاد أبعدته عن عائلته الكبيرة. كان الهدف من الغربة تأمين حياة كريمة لهم، ومستقبل عله يكون أفضل له ولأولاده. تحمل مرارة الغربة، وكان ينتهز كل مناسبة سواء في الفرح أو الترح ليكون وسط عائلته.
المغترب الذي يقبض على جمر الفراق في بلاد لا تشبهه، لم يتوقع أن يأتي كورونا في يوم ويحرمه من أن يقطع مسافات العالم على أمل أن يتواجد قرب أحد أحبائه المرضى، أو الذي يغادر الدنيا، أو أن يشارك قريبين إلى قلبه أحزانهم وآلام أرواحهم.
العزلة هي السيد الأوحد في زمن كورونا، هذا الفيروس الشرس الذي تنمر على أرواحنا، فبات يقتلنا مرتين؛ الأولى حين يبعدنا عن أحبائنا قسرا، والثانية حينما يمنعنا حتى من احتضانهم ووداعهم كما يليق بهم. والنتيجة عزلة تتسيد تفاصيل حياتنا، فنصبح فريسة لغربة تجتاح كل لحظاتنا.
كورونا كسر قلوبنا وهشم أرواحنا، فكيف نرمم ما تبقى منها!