في بداية الطلب ـ طلب العلم الشرعي ـ حذرني بعض الأذكياء من الحصر الوهمي الذي يمارسه بعض الكتاب على القراء، حين يقول لك ــ مثلا ــ : هي إحدى ثلاث إما كذا وإما كذا أو كذا، وتكون هناك رابعة يمكنك الأخذ بها.
وكثير من المحللين السياسيين والمفكرين والكتاب ـ من الإسلاميين أعني ـــ يسير تحت هذا الحصر الوهمي وهو يعالج قضايا الأمة المطروحة على الساحة الإسلامية!!
وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال.
المقاومة في العراق: مقاومة وطنية شريفة ؟ أم خروج على السلطة (الشرعية) للبلاد ؟ أم جهاد لتحرير العراق ؟
الواقع أن جل التحليلات تدور في هذه الأطر، وليست إحدى الثلاث، أو بالأحرى ينبغي ألا تكون إحدى الثلاث.
ذلك؛ لأن مفهوم الوطنية المفروض علينا مرفوض في تصورنا الإسلامي، فرباطنا عَقدي وليس طِيني، والسلطة التي فرضها الاحتلال ــــ وكذا كل سلطة لا تحكم شرع الله ــــ لا بد من الأخذ على يديها حتى تُحكِّم شرع الله، وراية الجهاد لا تُرفع لتحرير الأوطان ـ بحدودها الجغرافية المُستحدثة ـ فقط وإنما لتكون كلمة الله هي العليا في العراق وخارج العراق، وما دام الأمر والنهي للبشر وليس لله فلا بد أن ترفع راية الجهاد.
إذا خطابٌ آخر خارج دائرة الحصر هذه لا بد أن يوجهه إلى المجاهدين في العراق ومن يهمه أمرهم خارج العراق، خطاب يحدد ماهية القضية التي يجب أن يحمل لها السلاح ” مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_ ” و ” مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ” و ” اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ” و ” مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ سِتِّينَ عَامًا خَالِيًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ”
خطاب يركل بقدميه شبهات المنهزمين ووسواس الضالين المبتدعين المنادين بكف اليد ـــ وقد حلَّ العدو بالأرض وهتك العرض وأخذ المال ـــ حتى تُعدَّ العدَّة، خطاب يقول لهم للنصر أسباب أخرى عندنا ” ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز” ” إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله “.
وفي فلسطين مثال آخر.
تتكلم التحليلات السياسية عن (القضية الفلسطينية)، وتتكلم عن الاستراتيجيات التي ينبغي أن تنتهجها الانتفاضة من أجل تحرير فلسطين، وتتكلم عن حماس وكأن الجهاد من أجل تحرير المقدسات قرار بيدها تفعل به ما تشاء.
وهذه الجعجعة تُخفي وجها آخر للحقيقة وهو أن القضية ليست فلسطينية وإنما إسلامية، بل من أخص قضايا المسلمين لارتباطها بالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين ومسرى الحبيب صلى الله عليه وسلم وأن طرفها الثاني اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا… كل الذين آمنوا في فلسطين وخارج فلسطين، والذين يسعون في الأرض فسادا… أرض فلسطين وباقي أراضي العالمين.
فينبغي ألا تكون القضية فلسطينية من طرفنا كما أن الطرف الآخر ــ اليهود ومن ورائهم ــــ القضية عندهم ليست فلسطينية فقط بل فلسطينية وعراقية وأردنية ومصرية سعياً لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل للفرات.
وتمارس القنوات الفضائية (الجريئة) نوع من الحصر والخداع حين تعرض خسائر المقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين وما يحدث للشعب جراء هذه العمليات من اعتقال وهدم للبيوت ومصادرة للأموال، وتجبُن كمراتهم (الجريئة) عن عرض ما تُحدثه المقاومة من نكاية في صفوف العدو.
فهي تقول ـــ بلسان الحال ــــ : هذه ثمار المقاومة… العدو معافى والمتضرر هم عامة الناس… مفاسد المقاومة أكثر من مصالحها فلم؟!
ونحتاج إلى من يخرج من هذا الحصر، ويبين للناس تأويل قول الله _تعالى_: ” إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ” .
لم أقصد تتبع حالات الحصر والخداع الموجود في الإعلام واغترار بعض الطيبين بها، أبداً لم أقصد هذا، وإنما أردت لفت النظر إلى هذه الظاهرة وتنبيه إخواني على هذا الأمر.
والله أسأل أن يتقبل منا وأن يبارك في أقوالنا وأفعالنا.