إن إنقاذ الناس من الكفر ـ بلا شك ـ رحمة، وإن إرشاد الضال رحمة، وإن التثبيت على الصراط المستقيم بعد حيرة الشك رحمة، وإن إخراج الإنسان من فتنة الشهوات وحيرة الشبهات رحمة، وإن توبة العاصي رحمة، وإن الهداية بعد العمى والضلال رحمة، وإن العلم النافع بعد الجهل رحمة.
ومن الرحمة: أن تُقدَم النصيحة للمخطئ، وأن يوعظ الغافل، وأن ينبَه الشارد، وأن يُدلَّ الناسُ دومًا على الخير، وأن يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وإن الداعي إلى دين الله عز وجل يكون رحيمًا بالعباد، حكيمًا، واسع الصدر، صدوقًا، مخلصًا، يبدأ بنفسه، ويتمنى الخير للناس جميعًا، ويدعوهم إلى ما أحبه لنفسه ورضيه لروحه مما فيه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فهو يعيش لدعوته يرجو رحمة الله وفضله..
**حبيب وطريق النور***
إنه طريق النور، طريق الأنبياء والمرسلين، ومن معالمه الأساسية ما وضحه مؤمن آل يس حين قال لقومه: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)[يس:20- 25].
فقد أسمع هذا الداعي الأمين الصالح الناس معتقده الصحيح المؤسس على الدليل والبرهان قبل أن يفارق الدنيا، وكأنه يريد أن يقول: ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
لقد شافه الداعي الأمين قومه بذلك، وصدع بالحق إظهارًا للثبات على الدين وعدم المبالاة بما يصدر عن المتعنتين، وإن إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين في (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، أي: إني آمنت بربكم الذي خلقكم (فَاسْمَعُونِ)، أي: فاسمعوا قولي واقبلوه، فإني لا أبالي بما يكون منكم بعد ذلك.
لقد كان هذا الداعي الأمين قوي الحجة، ساطع البرهان، صادق اللهجة، ثابت الجنان، عظيم الرغبة في الخير لنفسه وللناس، اعتصم بحبل الله، وأخلص العمل لله، وثابر في الدعاء إلى الله حتى حظى بالشهادة، ونال الكرامة، وفاز بالرضوان، وفرح بلقاء ربه، فقد ضاقت صدور الملحدين، وتحير أمام الحجة البالغة الحاقدون المناوئون، فوثبوا على الرجل الصالح وثبة رجل واحد فقتلوه (قيل رجموه ، وقيل حرقوه، وقيل وطؤوه بأرجلهم ) ولم يكن له أحد من القوم يمنع عنه، ويرد هجمتهم الشرسة. فلم يزالوا به حتى فاضت روحه إلى بارئها، وظل القلب الطاهر يهتف “اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون”.
**ياليب قومي يعلمون***
وجاءته البشرى، واستقبلته ملائكة الرحمة، ووجد دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، لقد كان رحيمًا بالناس فرحمه رب الناس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما شاهدها (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ *بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي)[يـس: 26، 27]، أي بغفران ربي لي.
لقد أذهب الله عن حبيب حزن الدنيا وسَقْمهَا ونصَبَها، وهو المؤمن الناصح، فلما عاين من كرامة الله تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من الكرامة والرحمة والرضوان: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فتمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “نصح قومه في حياته بقوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)”.[رواه ابن أبي حاتم].
إن حبيبًا وأمثاله من الدعاة المخلصين لعقيدتهم هم أشبه بالمنارات على الطريق، وفي سيرهم عبرة وعظة، والواعظ الناجح هو الذي يقتبس، وعلى طريق هذه النماذج العالية يجتهد في السير، ومن كتاب ربنا نتعلم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم نتزود، وإن هذه الآية الكريمة فيها تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه.
ألا ترى كيف نصح حبيب لقومه في حياته وبعد موته؟ ألا نرى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل والهلاك وهم كفرة عبدة أوثان؟ ألا نذكر في هذا المقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد اشتد أذى قومه، وهو الناصح الأمين الرحيم بهم، فلم يدع عليهم في أشد الأوقات حرجًا، وكان يدعو لهم بالهداية “اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”، “لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله”.
إننا في أشد الحاجة إلى هذه المناهج العالية، وإن الدعاة إلى الله يجب عليهم أن يلزموا نفس الطريق، طريق المرسلين والصديقين في الرحمة بالناس، والرفق بهم، والتلطف في إرشادهم، وفي الوصول إلى القلوب والعقول بالقول الحسن، والكلم الطيب، والحكمة، والدليل والبرهان، ولين الجانب، والإخلاص، والصبر، وتحمل الأذى والمشقة مع حسن التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه وحده، وإن الله عز وجل ناصر أولياءه، وخاذل أعداءه ..وقد انتقم من قوم حبيب بعد قتلهم إياه غضبًا منه عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه، وما احتاج في إهلاكه إياهم أكثر من صيحة ملك، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، جزاء تعنتهم، ومكابرتهم، وقتلهم الناصح الأمين.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:7،8 ) .
فطوبى لمن قدم إيمانًا صادقًا وعملاً صالحًا.