‘);
}

إنّ الوطن هو المكان الذي ترعرع فيه الإنسان، وانطبعت كلّ الصور الجميلة في مخيلته، فحين تتراءى أمام ناظريه صورة الجبال التي ذرعها طولا وعرضا فإنّه يكبر حبّا، وحين تلوح صور أعشاش الطيور في الأفق لمّا كان التنافس على أشدّه بين أيدي الأطفال العابثة وقلوب العصافير الرقيقة فإنّ القلب يتّسع، وحين تسيل ذكريات الماضي طافيةً على جمود الحاضر وغموض المستقبل فإن الروح تغتسل من كلّ الأدران.

الوطن بجباله ومياهه وترابه ورجع أصوات الأحبّة والأصدقاء، وبحديث الأجداد عن الأطلال، و لو لم يكن له سوى ذلك الحب والحنين الذي ينبعث في النفس لكفاه ذلك. قد يُظنّ أنّ هذا كلام يردد ويقال تكرارا لما ازدحم على أقلام الشعراء،و اختنق في أفواه الغرباء. إنّ ذلك الحبّ والحنين الدائم الذي يأفل ثمّ يبزغ من جديد بعد اشتداد الظلمة هو الذي يحافظ على الأمل، إنّه سكبة الماء على تلك البذرة، التي لولاها لماتت. ولعلّ الأمل هو الشيء الذي يعيش من أجله البشر، ومادام بهذا القدر من الأهمية يجب المحافظة على ما يحققه وينمّيه.

إن كان في الوطن أناس يضنّون ويبخلون، ويُهملون ويهمّشون، ويُبعدون ويستثنون فإنّ أرض الوطن تظل على العهد، وتظل تبسط يدها طالبةً الحبّ والوصال، وليس أدلّ على ذلك من ذلك النداء الخفيّ الذي يبقى يتردد في النفس حين يتغرّب الإنسان عن وطنه، فيسمع نداء يشبه نداء المحبوبة التي تطلب نجدة حبيبها لرؤية طيفه. إذن الوطن لا يرتبط بشخوص؛ فهذا نبيّ أمتنا الكريم يخرج من مكّة مجبرا ويقف على الحزورة فيقول: ” علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. لقد فرّق النبي صلوات الله عليه وسلامه بين الأرض والأهل، ولم يكن خروجه إلا إكراها.