ما هي أهمية المحادثات؟ وما مدى تأثيرها فينا؟

لقد صار إجراء المحادثات في الآونة الأخيرة أمراً غير مألوف، إذ صرنا نبتعد أكثر عن بعضنا بعضاً، ونصبُّ جل تركيزنا على أجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية والهواتف، لنتواصل مع الغرباء عبر الإنترنت بدلاً من الأشخاص الموجودين أمامنا مباشرة،ولكن، هل هذه مشكلة حقاً، أم أنَّها مجرد حالة طبيعية جديدة؟ وإذا كانت مشكلة، فماذا يجب أن نفعل حيالها؟

Share your love

هذا هو موضوع كتاب “شيري توركل” (Sherry Turkle) الجديد، “استعادة المحادثة: قوة الحديث في العصر الرقمي” (Reclaiming Conversation: The Power of Talk in a Digital Age)؛ حيث تطرح “شيري”، الأستاذة في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT)، قضية مفادها أنَّ مهارات المحادثة والتواصل والألفة تختفي بسرعة، ويرجع ذلك إلى تعلُّقنا المفرط بالتكنولوجيا في كل مكان، وتؤكد أهمية استعادة المحادثات والمشاركة بصورة أكبر مع من حولنا، وإلَّا سنجازف بخسارة أحد أهم المعايير المجتمعية، مثل التعاطف والتأمل والقدرة على العمل بتعاونية وإنتاجية وإبداع.

يقدِّم كتاب “شيري” العديد من الدراسات العلمية، بالإضافة إلى المقابلات مع الخبيرين ومستخدمي التكنولوجيا من جميع الأعمار، ووفقاً لأبحاثها، يرتبط وجود الهواتف المحمولة في المواقف الاجتماعية – حتى عند إيقاف تشغيلها – بالعديد من الآثار السلبية، بما في ذلك إعاقة المحادثة وتغيير طبيعة الموضوع المطروح للمناقشة؛ ممَّا يجعلنا عُرضة للتفاعلات السطحية التي تحدُّ من قدرتنا على فهم بعضنا بعضاً.

تقول “شيري: “إذا وجدنا أنَّ حديثنا يُقاطَع، نتعمد التحدُّث في موضوعات سطحية قليلة الجدل أو العواقب، كما يمنع إجراء المحادثات في ظل وجود الهواتف الجوالة التواصل التعاطفي”.

ما نتعلَّمه من الملل:

لقد وجد الباحثون أنَّ أولئك الذين يقضون وقتاً أطول على الإنترنت في التواصل مع الآخرين هم أسوأ في تحديد مشاعرهم ومشاعر الآخرين؛ وهذا لأنَّنا نحتاج إلى التواصل البصري من أجل تعلُّم قراءة مشاعر بعضنا بعضاً قراءةً صحيحة؛ ممَّا يساعدنا على التقارُب.

المشكلة هي أنَّه من الصعب التخلي عن الهواتف المحمولة؛ وذلك لأنَّها تغرينا بوعدها بالإشباع الفوري، فنحن نفتح هواتفنا عادةً في أثناء الانتظار في مكتب الطبيب أو في طابور المتجر؛ وذلك لأنَّنا لا نحب أن نشعر بالملل أو الوحدة أو عدم الارتياح، وتوفِّر لنا هواتفنا فرصاً للهروب من تلك المشاعر؛ لذا بدلاً من المقاومة، نلجأ إلى هواتفنا.

على الرغم من أنَّ الهروب من الواقع قد يبدو غير ضار؛ إلَّا أنَّ كتاب “شيري” يربطه ببعض النتائج الضارة؛ إذ لا يتعلم الأطفال كيفية التعامل مع الآخرين بطريقة تراعي مشاعرهم؛ وذلك لأنَّهم لا يتواصلون بصرياً، كما لم يعُد في إمكان المراهقين التركيز في دراستهم؛ وذلك لشعورهم بأنَّهم مضطرون إلى التحقق من الهواتف المحمولة بحثاً عن رسائل جديدة أو لمحاربة الملل من خلال تصفُّح الويب.

بالإضافة إلى ذلك، لم يعُد الموظفون يتفاعلون مع بعضهم بعضاً في المحادثات غير الرسمية في أوقات الراحة أو حتى في اجتماعات العمل؛ إذ يميل الجميع إلى التحقُّق من البريد الإلكتروني أو التسوق عبر الإنترنت؛ ممَّا يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والإبداع والتواصل.

تقول “شيري”: “في كل مرة تتفقَّد فيها هاتفك، تكتسب دفعة من التحفيز وإفراز كيميائي عصبي، ولكنَّك تخسر الانتباه إلى ما قاله صديقك أو مدرِّسك أو والدك أو زميلك في العمل، أو ما يقصده أو يشعر به”.

يصاب الكثير من الناس بالضيق من دون جرعة الدوبامين التي يحفِّزها استخدام الهواتف، ولكنَّ الملل في الواقع له هدف؛ وذلك لأنَّه إشارة إلى التعمق والتفكُّر، كما يعلِّمنا الملل أن نستخدم خيالنا، وهو أمر هام للإبداع، وبالإضافة إلى ذلك، عندما نتهرَّب من الشعور بالملل، نتعلَّم أن نكون غير مرتاحين للعزلة، والتي تُعدُّ أمراً هامَّاً للتطوُّر الذاتي؛ إذ تقول “شيري”: “لطالما تحدَّث علم النفس التنموي عن أهمية العزلة، والآن يفعل علم الأعصاب الشيء نفسه؛ فعندما نختلي بأفكارنا دون أن نتفاعل مع المحفزات الخارجية، نساعد أدمغتنا على تطوير إحساس بماضينا المستقر”.

فقدان التواصل:

الأهم من ذلك بالنسبةِ إلى المجتمع ككل، أنَّه إذا كنَّا نعتمد فقط على التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، فإنَّنا نفقد الانفتاح في وجهة النظر، ونحيط أنفسنا بأفكار ثابتة نشاركها فقط مع دائرة معارفنا المنغلقة على الإنترنت؛ ممَّا يخلق توترات جماعية في مجتمعنا، ويعزِّز التعصُّب تجاه الاختلاف، وهذا ما نراه يحدث في الخطابات السياسية، وكذلك في العلاقات الشخصية.

تقول “شيري”: “تُظهِر الدراسات أنَّ الأشخاص لا يحبون نشر أشياء لن يوافق عليها متابعوهم؛ إذ يريد الجميع أن يتلقَّى إعجاباً على آرائه؛ لذا يمكن للتكنولوجيا أن تحافظ على المزيد من الصرامة التي تجعل التحدُّث صعباً؛ ممَّا يمكِّننا من العيش في أحزاب منغلقة لا تسمح بوجود الأصوات المعارضة”.

وممَّا يُحسب لـ “شيري” أنَّها لا تتجاهل الأصوات المعارضة، بما في ذلك العديد من المراهقين الذين يدعمون استخدام التكنولوجيا والذين لا يرون أي جدوى من إيقافها، على سبيل المثال: وفي إحدى المقابلات التي أجرتها مع بعض الأشخاص أكَّدوا أنَّ الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني طريقة إيجابية للتواصل في أثناء النزاعات؛ وذلك لأنَّ الرد عبر الإنترنت سمح لهم بالهدوء وتجنُّب استمرار المشاجرات، وردود الفعل غير المتوقعة، والمحادثات التي تحمل تهديداً عاطفياً؛ وهذا أمر جيد.

لكنَّ “شيري” تردُّ على هذه الأمثلة من خلال توضيح الطرائق العديدة التي قد تزيد فيها الرسائل النصية والبريد الإلكتروني من سوء الموقف، مثل حالات سوء الفهم، بالإضافة إلى ذلك، عندما يتأخر شخص ما في الرد على رسالةٍ ما، أو لا يستجيب على الإطلاق، قد يجعل المتلقي يشعر بالوحدة والإهانة، كما وجدت “شيري” في مئات المحادثات التي أجرتها مع المراهقين والبالغين حول حياتهم على الإنترنت، أنَّ العديد منهم لا يعرفون كيف يفسِّرون الصمت أو التأخير، وأنَّهم اعتادوا هذه الفظاظة، وقد تحوَّل هذا أحياناً إلى الانتقام، أو حتى التنمر على الآخرين، وبالإضافة إلى ذلك، يصبح التجاهل أو عدم الرد أمراً مقبولاً بمرورِ الوقت، ولم يعُد يلقي الناس بالاً لمدى الأذى النفسي الذي قد يُحدثه.

في إحدى الدراسات التي ذُكِرت في الكتاب، وجد الأصدقاء في الجامعة أنَّ المحادثات وجهاً لوجه أدَّت إلى تواصل عاطفي أكثر من وسائل التواصل الأخرى، مثل الدردشة المرئية عبر الإنترنت أو الرسائل الفورية؛ وهذا لأنَّك تحتاج إلى ذلك التقارب الشخصي للتواصل حقاً مع شخص آخر، أمَّا الرسائل النصية، فلا تنقل العواطف كما يعبِّر الوجه عنها، حتى مع استخدام الرموز.

بالإضافة إلى ذلك، يستخدم العديد من الأشخاص هواتفهم للبحث عن أشخاص مثاليين؛ ممَّا قد يدفعهم إلى تجاهُل الأشخاص الموجودين بجانبهم فعلياً من أجل البحث عن شيء أفضل.

شاهد بالفيديو: 6 فوائد لترك مواقع التواصل الاجتماعي

[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”200″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/ADtCycYuOa4?rel=0&hd=0″]

كيف تستعيد المحادثة؟

يلاحظ بعض الناس خطر التكنولوجيا ويحاولون تغيير سلوكهم؛ إذ يُنشئ المزيد من الشباب مساحات وأوقات خالية من التكنولوجيا في أثناء التواصل الاجتماعي، وهي ممارسة ذات فوائد هائلة للجميع.

كما يلاحظ أرباب العمل مشكلات التكنولوجيا في العمل؛ إذ تكشف الدراسات عن أهمية الروابط الاجتماعية في الأداء الوظيفي؛ ففي إحدى الدراسات، ارتدى الموظفون أجهزة تسمح للباحثين بقياس مقدار التفاعل الاجتماعي الذي حصلوا عليه مع الموظفين الآخرين خلال يوم عملهم، سواء في وضع الاتصال أم عدم الاتصال بالإنترنت، وأظهرت النتائج أنَّ الأشخاص الذين أجروا المزيد من المحادثات وجهاً لوجه في العمل أظهروا إنتاجية أعلى وتوتُّراً أقل، بينما لم يكن لمحادثاتهم عبر الإنترنت أي تأثير في هذا.

يجب على الآباء أيضاً الانتباه إلى هذا الأمر؛ وذلك لأنَّه في كثير من الأحيان، يتجاهلون الأطفال ويهتمون بهواتفهم بدلاً من منح أطفالهم الاهتمام الذي يحتاجون إليه لتعلُّم المهارات الاجتماعية والعاطفية، وحتى الأطفال الصغار في بعض الأحيان يستمتعون باستخدام الهاتف الجوال؛ ممَّا يحرمهم من حاجتهم الأساسية إلى التعلق بالكبار الموجودين في حياتهم.

كما قالت “شيري” إنَّ الأطفال الذين حُرموا من التواصل البصري مع والديهم لأنَّهم ينظرون في هواتفهم دائماً، يصبحون مضطربين ومكتئبين، وفي هذه الأيام، يخمِّن علماء الأعصاب أنَّه عندما يصبُّ الآباء كل تركيزهم على هواتفهم، فإنَّهم قد يشكِّلون أنموذجاً ثابتاً للوجه يحمل معه العديد من الأضرار.

يتعيَّن علينا جميعاً أن نفكر بعناية أكبر في كيفية تصرفنا تجاه التكنولوجيا؛ لذا وضعت “شيري” قائمة بالنصائح التي قد تساعدنا على قياس كيفية استخدام الهواتف المحمولة بحكمة لتجنُّب فقدان التواصل الاجتماعي الهام، وهي:

  • تذكَّر مدى تأثير هاتفك فيك، ولا تحمله معك في كل موقف تعيشه، لا سيما عند إجراء محادثة.
  • تمهَّل ولا تسعَ إلى الحصول على المتعة الفورية من خلال الترفيه أو الراحة أو التخلُّص من الملل أو الوحدة، وتعلَّم أن تتكيَّف مع العزلة.
  • احمِ إبداعك من خلال قضاء وقت هادئ مع نفسك.
  • تحدَّث إلى الآخرين الذين لا توافقهم الرأي، ولا تخشَ الاختلاف.
  • شاركفي المحادثة لمدة سبع دقائق على الأقل قبل الانسحاب منها؛ ممَّا يسمح لك بالتعمُّق وربما يؤدي بك إلى توجُّهات غير متوقَّعة.
  • لا تكُن حسَّاساً في كل جانب من جوانب حياتك، وبدلاً من ذلك، كُن متسامحاً، ونمِّ بداخلك التعاطف والرحمة تجاه الآخرين.
  • تعلَّم من الصراع بدلاً من تجنُّبه.
  • اترك هاتفك وانتبه إلى الشخص الذي أمامك، سواء كان طفلك أم صديقك أم شريكك أم موظفك، وأياً كان الشخص الذي تتفاعل معه، تذكَّر أن تعزز علاقاتك به.

لحسن الحظ، لم يفُت الأوان بَعد لتغيير المسار الذي نسير فيه؛ إذ قد تساعد الاستراحات الصغيرة التي نبتعد فيها عن التكنولوجيا على استعادة المحادثة؛ لذا يجب أن نأخذ زمام المبادرة، وهذا ما تدعونا “شيري” إلى القيام به عندما كتبت: “يجب على كل من يعرف أهمية المحادثة – بغضِّ النظر عن عمره – أن ينقل هذه المعرفة إلى الآخرين”.

المصدر

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!