هارون ي. زيلين؛ وروكميني كاليماشي* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 14/2/2020

مقتطفات من حديث الخبيرين، هارون زيلين وروكميني كاليماتشي، في ندوة عقدها معهد واشنطن يوم 11/2/2020.

  • * *
    هارون زيلين
    لم يكن الكثير من المراقبين يعرفون أن التونسيين كانوا منخرطين بشكلٍ غير متناسب في الحركة الجهادية قبل العام 2011، خاصةً لأنّ جزءاً كبيراً من هذا النشاط جرى في مناطق النزاع الأجنبية. فابتداءً من الجهاد الأفغاني المناهض للسوفيات، ووصولاً إلى الهجمات الإرهابية في مالي، شارك هؤلاء في هذه الحركة لمدة 30 عاماً قبل الثورة التونسية، ولعبوا أدواراً مهمة كمقاتلين أجانب في البوسنة والجزائر والعراق ودول أخرى. كما كانوا عناصر رئيسية في شبكة الخدمات اللوجستية والتيسير والتجنيد في أوروبا، وعملوا بشكلٍ أساسي انطلاقاً من ميلانو، ولكنهم تواجدوا أيضاً في باريس وبروكسل ولندن. وتساعد هذه الأمثلة على توضيح سبب انضمام العديد من المقاتلين التونسيين الأجانب إلى القتال في سورية خلال الأعوام القليلة الماضية.
    في غضون ذلك، تم إطلاق سراح العديد من الجهاديين التونسيين المتطرفين ذوي الخبرة الإرهابية السابقة وبدؤوا ينتشرون بين الناس بسبب عوامل عدة، بما فيها الطبيعة الانتقالية لحكومة ما بعد الثورة، والرقابة غير الكافية على السجناء، والضغط من الثوّار. ولم تتمتع الحكومة الانتقالية بشرعية محلية كبيرة خلال فترة ولايتها، وهو الوضع الذي أتاح المجال أمام جماعة “أنصار الشريعة في تونس” لتنظيم نفسها رسمياً ونشر أفكارها.
    ولم تحل انتخابات ما بعد الثورة هذه المشكلة: فأصبحت الحكومة التي تقودها “حركة النهضة” أكثر انخراطاً من سابقتها في التعامل مع حركة أنصار الشريعة في تونس، ثم تبين أن رهانها على سياسة التعامل الناعم كان مكلفاً. فقد استغلت جماعة “أنصار الشريعة في تونس ذلك باتباعها نهج “الدعوة أولاً” بدلاً من نهج “الجهاد أولاً”. وسمح التركيز على أنشطة التوعية، والتعليم الديني، والجمعيات الخيرية، وجهود الإغاثة لهذه الجماعة بالوصول إلى جمهور أوسع لم تكن لتبلغه لو أنها ظلت منظمة سرية نمطية مثل تنظيم القاعدة. وكانت إحدى رسائل أنصار الشريعة في تونس، والتي تردد صداها جيداً بشكلٍ خاص لدى التونسيين الذين يبحثون عن شيءٍ جديد بعد الثورة هي: “أبناؤكم في خدمتكم”، وهو شعارٌ يهدف إلى الإظهار للمواطنين أن هذه الجماعة تخدم المجتمع.
    يساعد ما حدث في تونس بين العامين 2011 و2013 على توضيح سبب انضمام العديد من المواطنين لاحقاً إلى تنظيم “داعش”. فقد كان الكثيرون منهم ذوي تجربة مع جماعة أنصار الشريعة في تونس، التي أثار سقوطها تحولاً في الحركة الجهادية في البلاد. فهي لم تعد كياناً متماسكاً يديره التونسيون ويركز بشكلٍ أساسي على القضايا المحلية -بل أصبحت مجدداً أكثر عولمة بالنسبة للجماعات الكبرى مثل تنظيم “داعش”. وكانت الحركة الجهادية التونسية تعود إلى جذورها التاريخية، مع انضمام الأفراد إلى القتال في الخارج ومساعدتهم على تسهيل الهجمات والتخطيط لها. وبالإضافة إلى ذلك، ساعد التونسيون على بناء برنامج الدعوة الخاص بتنظيم “داعش” -فظهر أبو وقاص التونسي كشخصية علنية مثّلت هذا البرنامج في ستة من أشرطة الفيديو الخاصة بالتنظيم بحلول نهاية العام 2013.
    وأثبت الاستيلاء الفاشل على مدينة بن قردان في آذار (مارس) 2016 أنه نقطة تحول لسلطة تنظيم “داعش” داخل تونس، مما عزز إلى حدٍّ كبير من الشرعية السياسية للحكومة وحملتها العسكرية بعد عامٍ من الهجمات الكبيرة التي كان يشنّها “داعش”. ومنذ ذلك الوقت، تمكنت السلطات التونسية من إضعاف الحركة شيئاً فشيئاً. وبلغت الحركة الجهادية الآن أدنى مستوياتها منذ الثورة، في حين اكتسبت الدولة خبرة كبيرة وأصبحت تتمتع بفهمٍ أفضل لهذه الحركة.
    غير أن التحديات ما تزال قائمة. ولم تعد الحركة الجهادية في الطليعة بعد الآن -فهي حركة اجتماعية لها ثقافتها الفرعية الخاصة بها، ولم يعد التعامل معها من وجهة نظر عسكرية وإنفاذ القانون كافياً (على الرغم من أن ذلك ما يزال ضرورياً). فالعديد من الأفراد الذين انخرطوا في “داعش” وجماعة أنصار الشريعة في تونس لم يقوموا بذلك لدوافع عنفية، بل للمشاركة في مشاريع اجتماعية ومساعدة جيرانهم، تماماً كما روجت هاتان الجماعتان في إعلاناتهما. وبناءً على ذلك، يجب أن يوفر المسؤولون المحليون والغربيون سبلاً بديلة تلقى صدى لدى هؤلاء الناس، بما فيها التركيز بشكل أكبر على دعم التونسيين الشباب واحتضانهم.
    في المجمل، انضم حوالي 3.000 تونسيٍّ إلى تنظيم “داعش” في العراق وسورية، وانضم حوالي 1.500 إلى “داعش” في ليبيا. ووفقاً للحكومة التونسية، فقد عاد منهم 1.000 على الأقل إلى الوطن. واستجابة لذلك، نفذت الحكومة مشاريع تجريبية داخل نظام السجون خلال العامين الماضيين، وتشاركت مع جمعيات المجتمع المدني في إعادة التأهيل وإعادة الإندماج. كما رعت مجموعة من ورش العمل مع مسؤولين محليين وجمعيات محلية، على أمل أن تشكل دعامة مجتمعية للعائدين، لكي يتمكنوا من البدء بإعادة الاندماج بعد قضائهم عقوبة السجن.
    روكميني كاليماشي
    في فترة التطور الأولى لجماعة أنصار الشريعة في تونس، لم تكن هذه المنظمة عنيفةً على الإطلاق. وكانت مهتمة بشكلٍ أساسي بتقديم الخدمات، ابتداءً من القوافل المليئة بالملابس إلى العيادات الطبّية، والحملات الخيرية وغيرها. ويوضح ذلك كيف يمكن للمنظمات الإرهابية التعلم من ماضيها، على الرغم من اعتبار أنها تركز غالباً على تكتيكات عنيفة بحتة. وتحدث زعيم تنظيم القاعدة المشهور عطية عبد الرحمن الليبي ذات مرة عن فشل الجهاديين في الجزائر خلال التسعينيات، عندما حققت “الجماعة الإسلامية المسلحة” مكاسب مهمة في البداية، لكنها أصبحت لاحقاً شديدة العنف والتطرّف. وفي نهاية المطاف، أدت الفظائع التي ارتكبتها -وبعضها بحق أعضائها الخاصين- إلى نتائج عكسية. وترعرع زعيم أنصار الشريعة في تونس، أبو عياض التونسي، في هذه الحركة الأكبر وكان متأثراً جدّاً بتلك الدروس التي تعلمها.
    يستمر الجدل حول ما إذا كانت جماعة أنصار الشريعة في تونس تابعة فعلاً لتنظيم القاعدة. ومع ذلك، من المعروف أن أبو عياض قد تبادل الرسائل مع الزعيم الحالي للتنظيم أيمن الظواهري، ومع رؤساء “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” وجماعة “بوكو حرام” وحركة “الشباب”. وبالإضافة إلى ذلك، تشير الوثائق التي تمت مصادرتها في مجمّع أسامة بن لادن في أبوت آباد إلى أنه في فترة نشوء “أنصار الشريعة في تونس” تقريباً، كان تنظيم القاعدة يقرر ما إذا كان يجب التوقف عن إطلاق اسم “القاعدة” على التنظيمات التي تدور في فلكه، ربما بسبب الجهود المكثفة التي بذلتها وزارة الخزانة الأميركية لفضح مثل هذه الجماعات وتصنيفها على لائحة الإرهاب. وعلى سبيل المثال، كان تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في ذلك الوقت يطلق على نفسه اسماً محلياً هو “أنصار الشريعة في اليمن”.
    فيما يتعلق بالمؤامرات الإرهابية الأوروبية مثل الهجوم على صحيفة “شارلي إبدو” في كانون الثاني (يناير) 2015، وهجمات باريس في تشرين الأول (نوفمبر) 2015، وهجمات بروكسل في آذار (مارس) 2016، وهكذا دواليك، يبدو أن أصولاً فرنسية مغربية وفرنسية تونسية تنتشر بين مرتكبي هذه الجرائم. ففي العديد من الحالات، يكون هؤلاء الأفراد مولودين في شمال أفريقيا، وقد أتوا إلى أوروبا عندما كانوا أطفالاً، ثم علقوا على ما يبدو بين عالمَين، فعجزوا عن التخلص من الوصمة التي تحددهم كمهاجرين حتى عندما تعلموا التحدث بالفرنسية بطلاقة. وفي الوقت نفسه، لم يشارك سوى القليل من الأفراد الفرنسيين الجزائريين أو الفرنسيين الليبيين في مثل هذه المؤامرات، مما يثير العديد من التساؤلات حول الأوساط الجهادية التونسية والمغربية.

*هارون زيلين: زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن، وباحث زائر في “جامعة برانديز”، ومؤلف الكتاب الجديد “أبناؤكم في خدمتكم: المبشرون التونسيون في الجهاد”. روكميني كاليماشي: صحفية وصلت أربع مرات إلى الدور النهائي لجائزة بوليتزر، تركز في كتاباتها على تنظيمي “داعش” والقاعدة في صحيفة “نيويورك تايمز”.