تحولت ابنة السنوات التسع إلى أم صغيرة.. وصارت من لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها ربة بيت ماهرة!
الطفلتان وضعتهما الأقدار في خضم تجربة فريدة، فقد كان على الأولى أن ترعى شقيقتها – وعمرها عام واحد وبضعة أشهر – في غيبة أمها.. الأم العاملة التي جربت اصطحاب صغيرتها إلى مكان عملها، فاكتشفت أنها بين خيارين ؛ إما أن تنجز عملها أو ترعى طفلتها، ووجدت أن تغيرات الطقس تضر الصغيرة التي كان عليها أن تخرج من تحت الأغطية الثقيلة إلى برد الشتاء القارس، أو تتحمل لظى نهار الصيف القائظ، اقترحت عليها زميلاتها أن تجرب ترك صغيرتها مع ابنتها الكبرى، جربت ونجحت التجربة، واكتسبت الابنة خبرة معقولة في رعاية شقيقتها وإطعامها وتغيير ملابسها وملاعبتها.
أما الثانية: فقد كانت أمها تضطر إلى السفر لاعتبارات أسرية، فتتركها هي وأشقاءها الصغار، وتعطيها الخطوط العريضة في إدارة البيت في غيابها، وتتصل بها دوريا للاطمئنان، فتجد أن كل شيء على ما يرام، وأن الطفلة حلت محل أمها بكفاءة ورضا وعن طيب خاطر، وبصورة يستفيد بها كل من يعرف سن هذه الفتاة الصغيرة.. الكبيرة.
على الطرف الآخر، هناك بيوت تحتوي أمهات يوجهن أمرا لبناتهن مرة واحدة، فإن استجبن فبها، وإن تقاعسن وسوفن استسهلت الأم أن تقوم بما طلبته من ابنتها، وتجنب نفسها عناء تكرار الطلب والتسويف، فتدرك الطفلة نقطة ضعف الأم التي يزعجها بعد ذلك أن ابنتها مهملة، ولا تتحمل المسئولية، ولا تدرك أن تذبذب مواقفها، وعدم إصرارها على أداء ابنتها ما يطلب منها، وتحبيبها في ذلك هما سبب ما تعانيه اليوم.
وتكبر الابنة وتتزوج، ويصبح على كتفيها هم بيت كامل.. تتعثر.. تفشل.. تتمرد.. تتفاقم بينها وبين زوجها الخلافات، يحدث الطلاق، وتعض الأم بنان الندم حين تدرك السبب، ولكن بعد فوات الأوان.
نحن بين موقفين: أطفال يتحملون أكثر من طاقتهم وآخرون مرفهون يتأففون لمجرد اضطرارهم إلى رفع أقدامهم من على الأرض لتنظف الأم مكانها!
بين موقفين متناقضين.. بعيدين عن وسطية الإسلام، فليس مطلوبا أن نحرم أطفالنا من حقوق طفولتهم، ومطالب عمرهم، ونحملهم مسئوليات نضيق نحن الكبار بها ذرعا أحيانا، وليس منطقيا أيضا أن ندللهم إلى حد الرخاوة، وأن نستسهل القيام بما نطلبه منهم حين يتباطؤون.
نحن بحاجة إلى إدراك “فقه” تربية صغارنا على تحمل المسئولية، إلى فهم خصائص كل مرحلة عمرية، وما يمكن أن يتحمله الطفل من مسئوليات، إلى كثير من الجرأة في تفويض بعض مهامنا لصغارنا مع مراقبتهم عن بعد، وإغماض العين عن الأخطاء العابرة، وتشجيعهم على الإنجازات القليلة، وعدم إشعارهم بالعجز والتقصير.
إلى كثير من الصبر على تلكؤ صغارنا وصغيراتنا حين نطلب منهم أداء مهمة ما، ونجد أنفسنا مضطرين إلى تكرار الطلب أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة وبأكثر من تعبير على الوجه.. ابتسامة تشجيع.. نظرة عتاب.. عبوس استبطاء.
إلى كظم الغيظ حين يستفزنا أبناؤنا باستهتارهم بما نطلبه منهم، وعدم المبادرة بتنفيذه.
إلى تجاهل ما يضايقنا من تصرفاتهم التي تدل على عدم قدرتهم على تحمل المسئولية، وتكبير حجم أي تصرف – مهما صغر – يتم عن روح المبادرة والإنجاز.
إن الذين يفشلون في زواجهم لعدم قدرتهم على تحمل المسئولية ضحايا تربية غير “مسئولة”، والذين يحمّلون أنفسهم فوق طاقتها؛ لأن من حولهم مقصرون وضحايا أيضا، فهل نتوقع مجتمعا إسلاميا فاضلا ، يمهد للدولة الشاهدة، بينما كل أفراده.. ضحايا؟!