محمد الجالوس على طريق الحرير

في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط تسعينيات القرن الماضي، تعرّفتُ عيانياً على لوحة الفنان الفلسطيني – الأردني محمد الجالوس؛ فكان الافتتان الفوري هو المستوى الشعوري والبصري الأوّل، الذي لم ينقضِ وقت طويل من التأمّل حتى امتزج بتَوْق عارم إلى قراءة اللوحة على النحو الأكثر إغراقاً في متعة الرياضة الأخرى الغامرة: القراءة التي تتوسل، من جانب أوّل، […]

محمد الجالوس على طريق الحرير

[wpcc-script type=”9bd8c35b593284500b3a79df-text/javascript”]

في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط تسعينيات القرن الماضي، تعرّفتُ عيانياً على لوحة الفنان الفلسطيني – الأردني محمد الجالوس؛ فكان الافتتان الفوري هو المستوى الشعوري والبصري الأوّل، الذي لم ينقضِ وقت طويل من التأمّل حتى امتزج بتَوْق عارم إلى قراءة اللوحة على النحو الأكثر إغراقاً في متعة الرياضة الأخرى الغامرة: القراءة التي تتوسل، من جانب أوّل، تفكيك ما تقترحه اللوحة من عناصر تشكيلية منفردة ومعقدة وبالغة الغنى؛ ثمّ استجماع ما يُتاح استجماعه من هذه المعطيات على سبيل تلمّس «أبجدية» ما، «جالوسية» إذا صحّ التعبير، من جانب آخر.
ومع تكرار هذه المقاربة المزدوجة للوحة الجالوس، سواء عبر معارضه التي سنحت لي متابعتها، أو تكرّمه باستقبالي في مرسمه العمّاني؛ تراكمت تدريجياً، في أنساق استقبالي أو بالأحرى في طبقات تذوّقي لأسلوبيات الجالوس الفارقة، تلك الإشكالية القديمة التي تخصّ التجريد، وتحديداً طاقات المجرّد التعبيرية حين تكون موضوعات اللوحة أدعى إلى الملموس، وأكثر تطلباً للحدود الدنيا من التمثيل والتجسيد. وسواء استخدم الجالوس الألوان المائية لإنطاق حارة الياسمينة في مدينة نابلس، أو استخدم الزيت والخامات المختلفة في إحياء الأبواب الفلسطينية؛ فإنّ سلسلة الحلقات التي يقيمها بين المجرّد والملموس، خافية كانت أم ظاهرة، دأبت على استدراج ناظر من أمثالي إلى مناطق الإبصار المركّب: الفاتن أوّلاً، ثمّ الحاثّ على التأمّل تالياً، وصولاً إلى إغداق المعنى على التجريد والتجسيد في آن معاً.

وإذا صحّ أنّ اختيار الجالوس، من بين قرابة 100 فنان عالمي مشارك في المسابقة، يسجّل له منجزاً شخصياً رفيعاً جديداً، يُضاف إلى مسار زاخر وتجربة حيوية؛ فإنّ الواقعة تكرّم، أيضاً، الفنّ العربي عموماً، وشطره الفلسطيني والأردني على وجه الخصوص

وفي مناسبة معرضه النوعيّ البديع «أبواب 48» تسنى لي أن أثمّن مسعى الجالوس إلى ترويض مقاربة خاصة نادرة، عالية الصعوبة وسخيّة المثوبة؛ قوامها استعادة ذلك الثراء الشعوري الذي لا تفرزه الذاكرة المباشرة، بقدر ما تحرّض على استقدامه عناصر محورية ناظمة، مادية أو متخيَّلة، فعلية شاهدة أو مجازية رامزة، زمانية أو مكانية ليست بالضرورة في خزين ذكريات الفنان. وهكذا فإنّ الباب الفلسطيني لم يكن، عندما استرجعه الجالوس، مجرّد معطى بصري وتشكيلي مشترك يوحّد خطوط الاستذكار، ويسيّر عناصر الذاكرة في أقنية تتشابك وتتقاطع لتنتهي عند المصبّ الأكبر، 1948، حيث النكبة والفقد والخسران والرحيل والمجهول والحيرة والتيه، فحسب؛ بل لاح أنّ الباب سكنى إنسانية في المقام الأول، وعمارة وعمران، ومخزن وجود بالغ الثراء والامتلاء، سيق بعد النكبة إلى خواء واغتراب وعدم.
وقبل أيام أبهجني كثيراً، ولكن لم يفاجئني البتة، خبر اختيار جدارية الجالوس في مسابقة «مشروع طريق الحرير» الذي نظمه المتحف الوطني الصيني، وحلّ الجالوس ضمن لائحة الفئة الأولى مع ستة فنانين آخرين من أذربيجان وأوكرانيا وأوزبكستان وبريطانيا وإيطاليا. ارتفاع الجدارية 3,5 م، وعرضها متران، منفذة بألوان الإكلريك ومواد أخرى مختلفة، لا تغيب عنها تقنيات الفنان المعتادة في تشييد الطبقات اللونية المتراكبة، وإبراز الخطوط والجزيئات على نحو بارز يستهدي الإيحاء بالنحت. وهذه المرّة أيضاً، وجدتني أستمتع بتلمّس تلك الأبجدية الجالوسية في واحدة من أبرز معادلاتها الموضوعية، أيّ التوتر بين التجريدي والملموس؛ على قماش جدارية لم يكن يسيراً أبداً تقسيمها إلى فضاءات اشتباك تشكيلي حاشد، بين جِمال المحامل العربية، والسفن التي تمخر عباب البحار، وأهرامات الفراعنة، وصحارى الشرق، وطرق التجارة الآسيوية، والحروف العربية متداخلة مع نظائرها الصينية، في منطقة دلالية أولى؛ ثمّ الكتل اللونية، والتكوينات التجريدية، والخطوط الشفيفة أو الظليلة، ورُقّع الطلس الصاخبة الحارّة أو إيقاعات التلوين الهادئة الباردة، التي تسيّر المشاعر في أقنية السرعة أو البطء، استكانة الذهن أو اشتعاله، وانبعاث الهندسة أو اضمحلال المقاييس…
والحال أنّ مفهوم طريق الحرير، في معانيه التاريخية والجغرافية والاقتصادية والثقافية والحضارية، هو هذا الامتزاج العميق بين العناصر والمؤثرات، وطرق التجارة مثل تقاليد العيش، والأديان والمذاهب والمعتقدات مثل منسوجات الحرير وصناعات الخزف والزجاج والحليّ. وإذا كانت ألوان الصحراء، والأصفر والبنيّ والترابي تحديداً، هي الحمّالة الأبرز للمعادلات اللونية في الجدارية؛ فإنّ تنويعات الأزرق فيها ليست إشارة إلى مياه البحار والمحيطات فقط، بل لعلها تحيل أيضاً إلى اللون الأزرق الذي أدخله الخزّافون المسلمون إلى أوانيهم، فاجتذب أباطرة الصين منذ القرن الثامن. وهو مسعى لا يقتصر، من جانب الجالوس، على تحقيق هذا أو ذاك من توازنات العمل على الأصعدة التشكيلية والتقنية والبصرية؛ بل يتعداه، كما أرى شخصياً، إلى إحقاق حقّ الأرشيفات التاريخية التي اكتنفت طرق الحرير، وابتدأت أصلاً من سيرورات الإغناء المتبادلة بين الشعوب. ويُقال عادة إنّ طرق الحرير عرّفت آسيا على الإسلام، وعرّفت المشرق على البوذية؛ وأنه كما انتقل البارود عبر أحمالها، فقد انتقل الورق والخطّ والفنون أيضاً.
وإذا صحّ أنّ اختيار الجالوس، من بين قرابة 100 فنان مشارك في المسابقة، يسجّل له منجزاً شخصياً رفيعاً جديداً، يُضاف إلى مسار زاخر وتجربة حيوية؛ فإنّ الواقعة تكرّم، أيضاً، الفنّ العربي عموماً، وشطره الفلسطيني والأردني على وجه الخصوص. ومن الجلي أنه تكريم لا يشمل المساهمة في إحياء واحدة من أبرز حركات التلاقي والتواصل والتثاقف بين الشعوب على مدار التاريخ، فحسب؛ بل يؤشر بقوّة على أنّ التشكيل العربي بلغ شأواً عالياً من حيث الشكل والمضمون، والسوية والتقنيات.

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *