تحدثنا معكم فيما سبق حول موضوع العنوسة ، أسبابها ثم عن آثارها وأضرارها، فكان لابد وأن نتعرض للعلاج، وكيفية البحث عن المخرج العملي من هذه الظاهرة التي فشت في كثير من مجتمعات المسلمين.
وبداية أقول: إن هذه الظاهرة وتلك المشكلة لم تأتِ بين عشية وضحاها، ولا وجدت صدفة في البيوت، بل نحن الذين أوجدناها ونفخنا كير نارها بتقاليدنا وعاداتنا وتحكماتنا المخالفة للدين.
ولئن كانت المشكلة قد تطورت وتعقدت بتعدد أسبابها القديمة والحديثة، إلا إن الحلول مازالت بأيدينا إذا صدقنا مع أنفسنا في الخروج من هذا البلاء، ولست أعني أيضًا أن العلاج أمر هين، ولكنه طريق شاق وطويل يحتاج إلى تضافر الجهود، وتشابك الأيدي، ومشاركة الجميع من آباء وأمهات، ودعاة وقضاة، ومدرسين وأئمة، ووسائل إعلام، بل ومسؤولين أيضًا.
ولابد عند وضع الحلول وعلاج الداء من معرفة أسبابه لتخير الدواء النافع والعلاج الناجع؛ “فما أنزل الله من داء، إلا أنزل له دواء؛ فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله”.
وقد استعرضنا أسباب هذا الداء، منها ما ذكرناه ، ومنها ما لم يذكر لضيق المقام ، فوجدنا لها جميعها علاجًا واحدًا يذهبها كلها، ألا وهو “العودة إلى الدين”، “العودة إلى الإسلام”، “الرجوع إلى الشريعة الغراء والشرع المطهر”. ليس فقط لنحل المشكلة ثم ننساه، لا، بل العودة إليه بصدق والتزام به على الدوام.
وهذا كلام عام، وسأفصله، ولكن قبل ذلك أقول:
إن الله تعالى أنزل هذا الدين وهذه الشريعة ليطهر بها قلوب العباد، ويزكي بها نفوسهم، ويسعد بها حياتهم، وييسر بها أمور معاشهم ومعادهم، ويهبهم بها السعادة الروحية والبدنية، فمن التزم بها وتمسك بها سعد سعادة الأبد في دنياه وأخراه، ومن طرحها ظهريًّا واستبدلها بغيرها – أيًّا كان هذا الغير – أفسد الله عليه دنياه، وأعماه، وأضله عن أخراه: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)[طـه:123 – 127].
لقد عاشت الأمة زمانًا التزمت فيه الشريعة، فلم يكن يسمع فيها عن مثل هذه الآفات والمشكلات والأوبئة “إلا في حالات شاذة والشاذ لا حكم له”. فلما تركت الأمة دينها، وغزيت في أفكارها، ظهرت فيها الطواعين والأمراض، والبلايا والزرايا؛ فإذا عدنا إلى الله عاد الله إلينا، (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)[الإسراء:8]، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11].
**إن علاج هذه المشكلة في أمور:***
**أولها: إعادة البناء الديني العقدي للأمة:*** فإن الأمة قد ابتليت في عقيدتها، فتشوش على الكثير إيمانه وتصديقه لربه ولرسول ربه، فضعف اليقين عند الكثيرين في أن الله يعين المتزوج للعفاف ويوسع عليه ويرزقه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ولم يعد الزواج عبادة عند البعض وإنما مجرد شهوة وليس قربة يبتغى بها وجه الله تعالى أولا ثم متعة النفس وعفتها ثانيا، وشكك الناس في بعض التشريعات كالتعدد مثلا وبدلا من أن يكون حلا جعلوه بابا يهاجمون به الدين وأهله ، ناهيك عن انصراف القلوب عن اليقين بأن حلول المشاكل في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
**ثانيًا: إعادة البناء الأخلاقي:*** وذلك بإعادة غرس المفاهيم الصحيحة في قلوب العباد، وخاصة الناشئة والطلائع، فنغرس فيهم محبة الطهر والعفاف، ونعظم في قلوبهم معاني الشرف والمروءة، وحفظ الأعراض، والنخوة والرجولة والفحولة، والحياء والستر، وغض البصر؛ خصوصًا بعد الغزو الفضائي والإعلامي الهادف لهدم كل معاني القيم ، والداعي لكل رذيلة وتحلل، فكل ما يعرض على أبنائنا – إلا ما رحم الله – هو دعوة للتحرر أو التحلل، ونداء يصم الآذان لإظهار المفاتن وإبراز العورات، وهدم كل حصن للفضيلة.
فمجلات النساء : لا تعرض إلا الزينة والعري، وآخر الموديلات، وقصص حب الممثلات.
ومجلات الرجال: بين الرياضة، والحب، والجنس.
والأفلام : حالها ما تعلمون ماخور في بيوت المسلمين.
ومجلات الحوادث: لا تعرض إلا للخيانات الزوجية، والمخدرات، حتى يعتقد الإنسان أن الدنيا كلها هكذا.
وليس لتكوين الأسر عندهم مقام، ولا للزواج وفضائله مكان، بل شهوات تسفح في أي بالوعة. فلا عاصم للشباب بعد ذلك إلا في سرعة الزواج؛ فإن الزواج عصمة من كل ذلك؛ لمن قدر، أو التمسك بمكارم الأخلاق قدر الطاقة، ولذلك قال النبي r: “يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فَإنّهُ أَغَضّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ فَإنّهُ لَهُ وِجَاءٌ”.
**علاج غلاء المهور:*** إذ كان واحدًا من أكبر عقبات الزواج، وقد عالج الشرع هذا الأمر علاجًا عمليًّا في كتاب الله وفي سنة رسوله القولية والعملية.
فأما القرآن؛ فقد قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النور:32]، وأما السنة القولية فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها” [رواه أحمد].
وأما السنة العملية، فما أصدق رسول الله أحدًا من نسائه ولا زوج بنتًا من بناته على أكثر من 500 درهم؛ ففي مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: “كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشَّاً، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النِّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لأَزْوَاجِهِ”.
وعن ?ابن عباس -رضي الله عنهما- “لما تزوج علي فاطمة رَضي الله عنهما – قال صَلى الله عليه وسلم لعليٍّ: أعطها شيئًا. فقال: ما عندي شيء. قال: أين درعك الحطمية؟ فأعطاها إياها”.
وجاءت امرأة إلى النبي صَلى الله عليه وسلم فقالت: يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُ لأَهِبَ نَفْسِي لَكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعّدَ النّظَرَ إلَيْهَا وَصَوّبَهُ ثُمّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوّجْنِيهَا قَالَ: “هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟” فَقَالَ: لاَ وَاللّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئا فَقَالَ: “انْظُرْ وَلَوْ خَاتَما مِنْ حَدِيدٍ” فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ ولاَ خَاتَما مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَا تَصْنَعُ بِإزَارِكَ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ” فَجَلَسَ الرّجُلُ حَتّى طَالَ مَجْلَسُهُ ثُمّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلّيا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمّا جَاءَ قَالَ: “مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟”
وقال عمر: “ألا لا تغالوا في مهور النساء”.
إن الشرع جعل الصداق مكرمة للمرأة، فلا ينبغي أن تحول به المرأة إلى سلعة تباع وتشترى، فليس هناك أعظم من فاطمة ولا أشرف ولا أطهر، ومع ذلك زوجها النبي صَلى الله عليه وسلم على درع. ونحن لا نقول بتحريم المغالاة لكن القصد القصد.
**محاربة المغالاة في تكاليف العرس:***
وأنا لن أكثر عليك في هذا الباب، ولكن سأذكر لك حادثتين:
الأولى: زواج أفضل رجل في الدنيا:
لما تزوج الرسول من صفية َكَانَتْ وليمة الزواج: السَّمْنَ، وَالأَقِطَ، وَالتَّمْرَ .
والثاني: زواج سيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء:
قال عليِّ رَضي الله عنه قال: “جَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ وَقِرْبَةٍ وَوِسَادَةٍ حَشْوُهَا إذْخِرٌ”.
قال جابر: حضرنا عرس فاطمة فما رأينا عرساً كان أحسن منه. حشونا الفراش ليفًا، أتينا بتمر وزبيب فأكلنا. وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. (جلد كبش)”.
ولما تزوج عبد الرحمن بن عوف قال له النبي صَلى الله عليه وسلم: “أَوْلِم ولو بشاةٍ”.
**عرض الرجل موليته على الصالحين:***
فإذا وجد ولي المرأة رجلا صالحا دينا ذا كفاءة فلا مانع أن يعرض عله موليته بنتا أو قريبة وهذا لا غضاضة فيه بل هو فعل أهل العقل كما فعل عمر رضي الله عنه ففي صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر : فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال : سأنظر في أمري، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر : فلقيت أبا بكر، فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت : نعم، قال : فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها… فهذا فهم عمر ومن منا أفضل من عمر.
نسأل الله أن يوفق الأمة لما فيه خيرها ، والحمد لله رب العالمين