مصالح الصين في المرحلة الراهنة تفرض عليها دعم استقرار واستقلال أفغانستان، وحركة  طالبان أفضل حليف للصين..

 

 

د. طارق ليساوي

خلصنا في مقال” مخاوف الصين من سيطرة حركة طالبان على أفغانستان …”، إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يصب من جهة،  في مصلحة الأمن القومي الصيني، فبكين كانت متوجسة من الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، التي تشترك في حدود 50 ميلاً (80 كيلومترًا) مع منطقة شينجيانغ بغرب الصين في نهاية ممر واخان الضيق… لكن من جهة أخرى فإن التواجد العسكري الأمريكي بالرغم من ما يثيره من مخاوف إلا أنه حقق للصين إستقرار نسبي طيلة العقدين الماضيين..فالصين تخشى من  أن تصبح أفغانستان قاعدة “للإرهابيين” و”المتطرفين” الذين يقاتلون من أجل استقلال منطقة “شينجيانغ” ذات الأغلبية المسلمة – وهي قضية ذات أولوية أثارها “وانغ” مع قادة طالبان خلال اجتماعهم الشهر الماضي. وردًا على ذلك، تعهدت طالبان بأنها “لن تسمح أبدًا لأي قوة باستخدام الأراضي الأفغانية للانخراط في أعمال ضارة بالصين”..

و بعد مرور نحو 72 ساعة على سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، مع عدم تسجيل أي اشتباكات تذكر فالأوضاع الأمنية مستقرة نسبيا، كما أن قيادة الحركة عملت على بعث رسائل تطمين لباقي قوى الشعب الأفغاني و للمنتظم الدولي ، و لدول الجوار ، و إعلانها عن إحترام حقوق الإنسان و حقوق المرأه تحديدا وفقا لما تسمح به لشريعة الإسلامية، و موقف الحركة المنفتح مكنها من تخفيف حدة العداء فالعديد من القوى الدولية إعترفت بالأمر الواقع و تعترف بحركة طالبان على أنا القوة المسيطرة على الأرض، صحيح لم يحدث إعتراف رسمي من أغلب القوى المؤثرة، لكن هناك إعتراف ضمني من قبل الصين و روسيا و حتى أمريكا و الإتحاد الأروبي، فحركة طالبان ستكون بمثابة ” الطفل المدلل”  الذي سيحاول الجميع كسب وده، فعالم اليوم لا يحترم إلا القوي المتمسك بحقوقه، و أعتقد أن سيكولوجية الشعب الأفغاني الذي عانى من الاحتلال الأجنبي طيلة عقدين ، و عانى بالمثل من المتعاونين الأفغان مع قوات الاحتلال ، هؤلاء الذين حولوا المساعدات الدولية و القروض و المنح الأجنبية المخصصة لإعمار أفغانستان إلى جيوبهم الخاصة، هذا الشعب سينظر لحركة طالبان وقياداتها نظرة  إحترام و تقدير لما بدلوه من جهد لتحرير أفغانستان من المحتل الأجنبي و من خونة الداخل، أما الاستمرار في تسويق هذه الحركة على أنها منظمة إرهابية ، فقد أصبح من خرافات الماضي ، فمن تابع بالأمس تصريح “بايدن” ، يلاحظ أنه  يتحدث عن طالبان باحترام و ود، نفس الأمر طبع خطاب القيادة الصينية و الروسية و البريطانية و الأوروبية، لكن في عالمنا العربي هناك إصرار على رفض كل من قاوم عن أرضه و عرضة ودينيه، ففي الوقت الذي حققت فيه طالبان و أفغانستان نصر تاريخي فاق في رمزيته ما حققته المقاومة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكي، نجد عواصم عربية و إعلامها المنبطح يحرص على وصف طالبان بالحركة الإرهابية، و من تحدث عن هذا النصر يصنف تحث طائلة الإشادة بالإرهاب، و الواقع أني لم أسمع أي مسؤول دولي كبير وصف النصر الذي حققته طالبان بأنه عمل إرهابي، فكفى من ترديد هذه الأسطوانة المشروخة التي لم نجني من وراءها إلا ذلا لبلداننا و تضييعا لفرص تنموية و تمديد للاستبداد و الفساد …

فالصين التي يحكمها حزب شيوعي ، قررت التعامل ببرغماتية مع حركة طالبان قبل الانسحاب الأمريكي بنحو ثلاث عقود، والعلاقات  الاستخباراتية قائمة منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان..و حرص الصين على إقامة علاقات ودية مع حركة طالبان، نابع من حرصها على حماية مصالح الصين العليا، فالعداء لهذه الحركة يعني بالتبعية عداء لأفغانستان، فإذا أمعنا النظر في العلاقات الأفغانية الصينية، يظهر لنا أن البلدين تجمعهما علاقات تاريخية واسعة، وعلى الرغم من تراجع اهتمام الصين بأفغانستان طيلة الحقبة الماوية و أيضا في فترة ما بعد إصلاحات 1978، و ابتعاد الصين عمليا عن التدخل في المستنقع الأفغاني، إلا أن مكانة أفغانستان الأمنية و التاريخية و الثقافية و الجيوبولتيكية، حاضرة بقوة في أجندة السياسة الخارجية للصين، و تعزز الاهتمام الصيني بأفغانستان مع إطلاق مبادرة الحزام و الطريق ومشروع طاقة باكستان-الصين..كما أن الصين تحتاج  لاستقرار أفغانستان كي تحقق مشارعها الأمنية والاقتصادية، وهو أمر دفع الصين بطلب من الحكومة الأفغانية في عهد ” حامد كرزاي”، إلى الدخول في محادثات  مع حركة طالبان ، نظرا للعلاقات المتميزة بين الصين و باكستان من جهة و بين باكستان و طالبان من جهة أخرى، و قد جربت الصين التعامل مع الحكومات الأفغانية منذ عهد الرئيس “حامد كرزاي” و الرئيس الهارب ” أشرف عبد الغني”، لكن هذه العلاقات لم تكن ترضي مصالح  الصين تماما ، لأن القيادة الصينية تنظر عمليا، إلى هذه الحكومات على أنها دمى في يد قوات الاحتلال الأمريكي… و سنحاول في هذا المقال إعطاء لمحة عن العلاقات الصينية الأفغانية ، لأن فهم هذه العلاقات يساعدنا على فهم موقف الصين الحالي من حركة طالبان …

فجذور العلاقات الأفغانية الصينية تعود إلى زمن بعيد، فقد بدأت فعلا قبل 130 سنة قبل الميلاد عندما زار سفير الامبراطورية الصينية إلى أفغانستان، وفي تلك الفترة كانت هناك صلات تجارية، ومنها مرور طريق الحرير عبر أفغانستان إلى آسيا الوسطى وأوروبّا وإفريقيا..أما من  الناحية الدينية وفي زمن “إمبراطورية كوشان”، شكلت أفغانستان منفذا للديانات الغير صينية، فعبر أفغانستان تغلغلت البوذية في الصين، وبعد ذلك كان وصول الإسلام إلى تركستان الشرقية…

العلاقات الصينية الأفغانية من “ماوتسي تونغ ”  إلى الغزو الأمريكي للأراضي الأفغانية

بعد قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949، اعترفت أفغانستان بهذه الثورة من دون أي ضغط وهي علامة بارزة في العلاقات الثنائية. وبعد هذا التاريخ، بدأت العلاقات الثنائية الدبلوماسية مع تبادل السفراء عام 1955م…و خلال هذه الحقبة الممتدة من أربعينات القرن الماضي إلى حدود سيطرة طالبان على كابول،  يمكن أن نميز بين  مرحلتين:

 المرحلة الأولى: العلاقات الأفغانية الصينية  من 1949 إلى 1991:

 خلال هذه الفترة تأثرت العلاقات الأفغانية الصينية، بمجريات السياسة العالمية و حالة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي و الشرقي، ففي البداية كثفت الصين من صلاتها الثقافية مع أفغانستان، وعندما تدهورت العلاقات الصينية الروسية، شرعت الصين في مشارع استثمارية ودعم لأفغانستان. أما من جانب أفغانستان فقد حافظت على حيادها ولم تدخل في الحزام الأمني الروسي، وعللت ذلك بعدم رغبتها في عداء الصين.

و بعد قيام “محمد داؤد” بانقلاب شيوعي، اعتبرت الصين أن الانقلاب حدث بتوجيه ورغبة من الروس، لكن مع ذلك عمل “محمد داؤد” على تطمين القيادة الصينية، إذ أرسل أخاه “محمد نعيم” كوزير للخارجية إلى الصين، الأمر الذي ساعد في إنهاء مخاوف الصين، و دفع الصين لتنفيذ مشاريع متنوعة في أفغانستان.

وأثناء الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1979، انحازت الصين أكثر باتجاه أمريكا، وتدهورت علاقاتها مع الروس. لأن الصين إعتبرت الاحتلال السوفياتي لأفغانستان خطوة في إتجاه تطويق الصين، و هو ما دفع الصين إلى التنديد بالغزو السوفياتي و قدمت دعم للمجاهدين الأفغان …

المرحلة الثانية “ما بعد الحرب الباردة :

بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان و اندلاع الحرب الأهلية الأفغانية، أغلقت الصين سفارتها في كابول، نفس الموقف إستمر مع سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان، و خلال هذه الفترة إتجه عدد كبير من الإيغور المسلمين إلى كابول، ففي هذه الفترة شهد إقليم “شينغيانغ” تحركات مسلحة مطالبة باستقلال الإقليم عن الصين، و كان معظم زعماء حركة المقاومة في تركستان الشرقية في أفغانستان. كما أن تهريب المخدرات أقلق القيادة الصينية، خاصة و أن أرباح هذه التجارة تذهب لحساب دعم الحركات المسلحة في إقليم “شينغيانغ”. ونتيجة لذلك عملت الصين وروسيا على تأسيس “منظمة شانغهاي الخامسة”، والتي تحولت ل“منظمة شانغهاي للتعاون”، وذلك بهدف مكافحة “الإرهاب” وتجارة المخدرات…

و بالرغم من هذا  القلق الصيني، كان هناك تفاهم سري بين طالبان والصين، و هو ما أشار إليه  مسؤول رفيع المستوى أثناء حكم طالبان لأفغانستان، “الملا عبدالسلام ضعيف” في مذكراته، إذ قال بأن السفير الصيني ذهب بصحبته إلى لقاء “الملا محمد عمر” ، والذي تعهد أن لا تُستغل الأراضي الأفغانية ضد أي من جيران أفغانستان… و لعل هذه المخاوف الصينية هي التي جعلت الصين تتعامل بحذر مع حركة طالبان و أفغانستان قبل الغزو الأمريكي، فهي من جهة رحبت بحملة  أمريكا والناتو ضد “الإرهاب”، لكنها رفضت إرسال قواتها العسكرية إلى أفغانستان، و حرصت على الحياد في موقفها من حركة  طالبان تحديدا فهي لم تصنفها على أنها منظمة إرهابية أو داعمة للإرهاب …و سنحاول في مقال موالي إن شاء الله تعالى، تحليل العلاقات الصينية الأفغانية في فترة الغزو الأمريكي لأفغانستان، و كيف أن الحكومة الصينية تعاملت بحذر و عدم إرتياح مع حكومات “حامد كرزاي” و “أشرف عبد الغني “… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…

* أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *