السنة النبوية هي المنهاج التفصيلي لحياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم، فهي تمثل القرآن مفسرا، والإسلام مجسما، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين للقرآن، والمجسد للإسلام، بقوله وعمله وسيرته كلها، في الخلوة والجلوة، والحضر والسفر، واليقظة والنوم، والحياة الخاصة والعامة، والعلاقة مع الله ومع الناس، ومع الأقارب والأباعد، والأولياء والأعداء، في السلم وفي الحرب، في العافية والبلاء.
ومن واجب المسلمين أن يعرفوا هذا المنهج النبوي المفصل، بما فيه من خصائص الشمول والتكامل والتوازن والتيسير، وما يتجلى فيه من معاني الربانية الراسخة، والإنسانية والأخلاق الأصيلة.
وهذا يوجب عليهم أن يعرفوا كيف يحسنون فهم هذه السنة الشريفة، وكيف يتعاملون معها فقها وسلوكا، كما تعامل معها خير أجيال هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم.
إن أزمة المسلمين الأولى هي أزمة فكر، وهي ـ في رأيي ـ تسبق أزمة الضمير.. وأوضح ما تتمثل فيه هذه الأزمة هو أزمة فهم السنة والتعامل معها، وخصوصا أنه ما أتي من أتي إلا من قبل جهلهم بالسنة وكيفية التعامل معها..
معاول هدم
إن الغلاة والمبطلين والجهال معاول هدم تهدم هذا الدين.. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ما يتعرض له علم النبوة وميراث الرسالة على أيدي هؤلاء.
فقد روى الإمام ابن جرير وابن عدي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه أنه قال: [يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين](والحديث ذكره الله الإمام ابن القيم في “مفتاح دار السعادة ” وقواه لتعدد طرقه ، وقد ورد عن الإمام أحمد تصحيحه، وابن عبد البر).
إنها معاول ثلاث، كل واحد منها يمثل خطرا على الميراث النبوي:
أولا: تحريف أهل الغلو
فهناك (التحريف) الذي يأتي عن طريق الغلو والتنطع، والتنكب عن الوسطية التي تميز بها هذا الدين، وعن السماحة التي وصفت بها هذه الملة الحنيفية، وعن اليسر الذي اتسمت به التكاليف في هذه الشريعة.
إنه الغلو الذي هلك به من قبلنا من أهل الكتاب، ممن غلا في العقيدة، أو غلا في العبادة، أو غلا في السلوك.
وقد سجل القرآن عليهم ذلك حين قال: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}(المائدة:77).
ولهذا روى ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إياكم والغلو في الدين.. فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين](رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع).
وروى ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: [هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون](رواه مسلم)
ثانيا: انتحال أهل الباطل
وهناك (الانتحال) الذي يحاول به أهل الباطل أن يدخلوا على هذا المنهج النبوي ما ليس منه، وأن يلصقوا به من المحدثات والمبتدعات ما تأباه طبيعته، وترفضه عقيدته وشريعته، وتنفر منه أصوله وفروعه.
ولما عجزوا عن إضافة شيء إلى القرآن المحفوظ في الصدور، المسطور في المصاحف، المتلو بالألسنة، حسبوا أن طريقهم إلى الانتحال في السنة ممهد، وأن بإمكانهم أن يقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بينة، ولكن جهابذة الأمة وحفظة السنة قعدوا لهم كل مرصد، وسدوا عليهم كل منافذ الانتحال، فلم يقبلوا حديثا بغير سند، ولم يقبلوا سندا دون أن يُشَرِّحوا رواته واحدا واحدا، حتى تعرف عينه، ويعرف حاله من مولده إلى وفاته، ومن أي حلقة هو؟ ومن شيوخه؟ ومن رفاقه؟ ومن تلامذته؟ وما مدى إيمانه وأمانته وتقواه؟ ومدى حفظه وضبطه؟ ومدى موافقته لثقات المشاهير أو انفراده بالغرائب.
ولهذا قالوا: “الإسناد من الدين.. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”
وقالوا: “طالب علم بلا إسناد كحاطب ليل”.
و لم يقبلوا من الحديث إلا ما كان متصل السند من مبتدئه إلى منتهاه بالثقات من الرواة العدول الضابطين من غير فجوة ظاهرة أو خفية، ومع ضرورة السلامة من كل شذوذ أو علة قادحة.
وهذا التدقيق في طلب الإسناد بشروطه وقيوده من خصائص الأمة الإسلامية، ومما سبقوا به أمم الحضارة المعاصرة في وضع أسس المنهج العلمي والتأريخي.
ثالثا: تأويل الجاهلين
وهناك (سوء التأويل) الذي به تشوه حقيقة الإسلام، ويحرف فيه الكلم عن مواضعه، وتنقص فيه أطراف الإسلام، ويخرج من أحكامه وتعاليمه ما هو من صلبه، كما يحاول أهل الباطل أن يدخلوا فيه ما ليس منه، أو يؤخروا ما حقه أن يقدم، أو يقدموا ما حقه أن تؤخر.
وهذا التأويل السيء، والفهم الرديء، من شأن الجاهلين بهذا الدين، الذين لم يشربوا بروحه، ولم ينفذوا ببصائرهم إلى حقائقه، فليس لهم من الرسوخ في العلم، ولا من التجرد للحق ما يعصمهم من الزيغ والانحراف في الفهم، والإعراض عن المحكمات، واتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله تبعا للهوى المضل عن سبيل الله.
إنه تأويل الجاهلين وإن لبسوا لبس العلماء، وتظاهروا بألقاب الحكماء، وهذا ما يجب التنبه له، والتحذير منه، ووضع الضوابط الضرورية للوقاية من الوقوع فيه.
ومعظم الفرق الهالكة، والطوائف المنشقة عن الأمة وعن عقيدتها وشريعتها، والفئات الضالة عن سواء الصراط، إنما أهلكها سوء التأويل.
وللإمام ابن القيم هنا كلمة مضيئة في ضرورة حسن الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرها في كتاب (الروح) وأنا أنقلها عنه.. قال رحمه الله:
“ينبغي أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل الكلام ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب، وما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله.. والله المستعان”. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــ
المصادر
كيف نتعامل مع السنة (الشيخ القرضاوي).
السنة ومكانتها في التشريع (مصطفى السباعي).