معرض «الوطن العائم» لفؤاد خوري وجيريمي بيكوك: لم يحدث إلا القليل على متن الباخرة أتلانتيس!
[wpcc-script type=”b0bba086a84c2b8a73c1f863-text/javascript”]

الصور المعلّقة على جدران «دار نمر» تركت من دون تعيين للحدث أو للمكان اللذين أُخذت فيهما. ما ذكر هو فقط الزمن، أقصد السنة 1993 مثلا أو 1983. ثم هناك العنوان الذي يُسمّي الصورة إيحائيا، على نحو ما يُسمّى كتاب أو تُعنْوَن قصيدة. تُركت قراءة الصور لعمل المخيّلات إذن، أو لاستخلاص الرمز، إذ لا كلام نثريا يضع الصورة في سياق حدثي أو حياتي. هكذا لا تكون الصورة فاصلا مقتطعا من حكاية، بل لحظة رمزية منقطعة، لذلك كان على زائري المعرض، لكي يعرفوا ما هم مقبلون على مشاهدته، أن يستعينوا بما سمعوه قبل مجيئهم عن موضوعه، الذي هو الرحلة البحرية التي حملت المقاتلين الفلسطينيين من لبنان في 1982.
لكن الصور كانت مضيِّعة، حيث تداخلت أزمنتها وأمكنتها أيضا. ولم يوضح البروشور الموزع في الداخل ما استغلق من توزّع الصور بين الرحلة البحرية ومشاهد أرضية، أو بين صور بالألوان وأخرى بالأبيض والأسود. ما احتواه ذلك الكتّيب الصغير (البروشور) نصوص تأملية تفكرية كان قد نشرها فؤاد الخوري في كتاب له «حكمة المصوّر» صدر بالفرنسية في 2004، مضافا إليها نص آخر كتبه لمناسبة أخرى. كان على الزائر إذن أن يقف أكثر عند الصورة مفردة.
أن يفكّر أنها لوحة يمكن أن تكون منفصلة عن السياق العام للمعرض، الذي لم يتوقّف عند سنة الخروج الأولى في 1982، بل استتبعها بخروج ثان في 1983 من طرابلس، ثم إلى تونس، فالضفة والقطاع.
إحدى هذه الصور تُظهر مكانا خاليا، مثل غرفة أو قاعة، يتوسطه كرسي اهترأ جلده الأحمر. هل المكان هو مكتب أُخلي في بيروت، هل هو مكان سكن، ثم هل هو متصل بموضوع المعرض؟ ثم ماذا علينا أن نشعر حيال هذا المشهد، أو ماذاعلينا أن نعرف؟ لا شيء يُسعف، خصوصا حين نقرأ، هناك إلى جانب الصورة العنوان الذي يخرجها من أي تحديد: «كرسي أحمر».
باستثناء ما نقل عن الباخرة والبحر يمكن ردّ الصور إلى أزمنة صعبة على التعيين، ومنها تلك التي تظهر مقاتلين فلسطينيين متجمعين على هضبة وهم في كامل سلاحهم. هذه يمكن أن تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، أو ربما إلى ما قبل ذلك. إن شئنا أن نرى ما نعرفه أصلا، هناك الصورة التي يُشاهد فيها قادة ما كان يسمى الحركة الوطنية (وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي) واقفين بين كثيرين آخرين تظللهم شجرات ضخمة، وملوّحين بأيد مرفوعة إلى الأعلى لوداع المغادرين. هذه صورة لا تدعو إلى الحيرة، بل إلى التذكّر. يماثلها في الوضوح صورة لامرأة ترفع الكلاشنيكوف لمقاتل، ربما كان زوجا لها أو أخا، كان أسرع في الصعود إلى الشاحنة، لكي يحمله معه إلى منفاه.
من بين الصور ثلاث أو أربع صور لياسر عرفات، منها اثنتان أخذتا من الخلف. كأنه لم يشأ أن يُظهر وجهه للمصور الوحيد (فؤاد الخوري) الذي، كما يقول، وجد نفسه هكذا على الباخرة، من دون أن يعرف إلى أين وجهتها. في صورة يظهر عرفات مسندا مرفقيه إلى درابزون الباخرة ومتأملا البحر. في صورة أخرى بدا مستطلعا بالمنظار ماذا هناك وراء المسافة المائية الشاسعة. ثم، في صورة ثالثة، بالألوان هذه المرة، يدقّق في خريطة لا يسع الزائر الناظر إلا أن يحيلها إلى ما تتيحه وما لا تتيحه الجغرافيا لراكبي الباخرة. على أي حال لم يكن فؤاد خوري ليسرف في أخذ الصور. لم يكن في جعبته، كما يقول، إلا ثماني بكرات أسود وأبيض ومثلها بالألوان. الصور المعروضة هنا في دار نمر ليست كثيرة على أي حال، إذ لسنا إزاء شريط تصويري فوتوغرافي لمراحل الرحلة ووقائع ما جرى فيها. ما تنقله الصور من الرحلة قليل ومتقطّع، وحيادي غالبا أو غير متقصد الإيغال في التذكير بأهمية ذلك الانتقال، أو الرحيل. إحدى الصور أظهرت مقاتليْن من بعد، واقفَيْن في مقدمة الباخرة. في صورة أخرى ظهرت رؤوس وهي تطلّ ربما على مرفأ الوصول، حيث رست الباخرة في اليونان، فبدا رجال الصورة كأنهم يلقون نظرة أولى على ذلك البلد. على العموم بدا الرجال قليلين، حتى أن المتجول بين الصور يروح يتساءل كيف اتسعت الباخرة أتلانتيس لكل أولئك الذين على متنها وظلت أنحاؤها تبدو، مع ذلك، كأنها خالية.
على العموم يحبّذ مصوّرنا ذاك الخفاء. الرجل الذي قصد المقبرة لتذكّر والدته المتوفاة، والذي أخذت صورته من الخلف هو أيضا بدت مجهوليته تامة الحضور. هكذا هي الشخصيات الأخرى في صور ما بعد رحلة الباخرة، فهي إما أطياف وخيالات وإما شخصيات غائبة فُوّضت أمكنة سكنها وبقايا متاعها لتبلغ أن بشرا كانوا هنا، وأنهم ما يزالون هنا وإن مستنكفين عن الظهور.
«الوطن العائم» معرض لفؤاد خوري وجيريمي بيكوك يستمر حتى أواخر سبتمبر/أيلول في «دار النمر» في بيروت.
٭ روائي لبناني