معرض «حكايات» لـ هيام عبد الباقي: تجسيد حياة المصريين وحكاياتهم في حِس تلقائي

القاهرة ــ «القدس العربي»: كثيرون مَن يحاولون صياغة أعمالهم الفنية بعيداً عن الصخب الأكاديمي، من نظريات وأساليب منقولة عن المدارس الغربية، بهدف الوصول إلى لحظة الكشف التلقائي ــ إن جاز التعبير ــ ويبدو أن أعمال الفنانة هيام عبد الباقي تنتمي لهذه الطريقة الفنية، رغم كونها حاصلة على درجة الدكتوراة في الفنون، ومارست التدريس في العديد من المعاهد والكليات الفنية (كلية التربية النوعية، المعهد العالي للفنون التطبيقية).

معرض «حكايات» لـ هيام عبد الباقي: تجسيد حياة المصريين وحكاياتهم في حِس تلقائي

[wpcc-script type=”9d7f3b1c4766eb7196e74a5c-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»: كثيرون مَن يحاولون صياغة أعمالهم الفنية بعيداً عن الصخب الأكاديمي، من نظريات وأساليب منقولة عن المدارس الغربية، بهدف الوصول إلى لحظة الكشف التلقائي ــ إن جاز التعبير ــ ويبدو أن أعمال الفنانة هيام عبد الباقي تنتمي لهذه الطريقة الفنية، رغم كونها حاصلة على درجة الدكتوراة في الفنون، ومارست التدريس في العديد من المعاهد والكليات الفنية (كلية التربية النوعية، المعهد العالي للفنون التطبيقية).
ورغم ذلك تأتي أعمالها، خاصة معرضها المُقام حالياً بقاعة (أرت لونج)، تحت اسم (حكايات) ليُجسد هذا الأسلوب الفني، على مستوى الشكل والتقنية، في لوحات متنوعة الأحجام، لمخلوقات وكائنات متناغمة وبعضها البعض، وجَوّها المحيط، المتمثل في البيئة والأفكار والسلوك الشخصي والنفسي لهذا العدد الهائل من الشخصيات، فلا توجد شخصية منفردة، أو تكوين يدّعي البطولة لشخصية ما، على حساب أخرى.
هذه الجموع البشرية وما يمثلونه من آمال وأحلام تأتي لنا في عالم من ذاكرة بعيدة، خليط من قرى مصر شمالاً وجنوباً، وحتى لحظات التجمع البشري الاستثنائي الذي كانت ساحته أو ديكوره الفعلي والنفسي الدِلالي ميدان التحرير في ثورة الخامس والعشرين من يناير.

العوالم والحكايات

تبدو الشخصيات للوهلة الأولى وكأنها مُستمدة من عالم اختفى أو كاد، عالم القرى والنجوع البعيدة، سواء قرى الجنوب أو الشمال المصري، من حيث البيوت المتلاصقة، والتي تشكل المساحة الأكبر في العديد من اللوحات، أكثر من كونها خلفية للمشهد.
إضافة إلى تلاحمها مع الشخصيات المرسومة أو المنحوتة وكأنها جزء لا يتجزأ من هذه البيئة. وللإيحاء أكثر بحالة المجموع هذه لا نجد شخصية تتفرّد وتتخذ منصة الحكي ــ بما أننا نتحدث عن حكايات وحيوات أشخاص ــ هناك كل مترابط، حتى وإن يبدو الانشغال بالحكايات المنفردة عن باقي الحكايات الدائرة حول هذه المجموعة أو تلك. حالة الجموع هذه تمثل من ناحية أخرى أحد أشكال السرد المرئي الشعبي، فالكل وإن كان يتحلق حول الراوي/الشاعر ليستمع، فهو هنا يتحلق ليكحي ويسرد، وعلى المُتلقي أن يستمع، ويتنقل عبر اللوحة لاكتشاف سر هؤلاء الشخوص، وأعدادهم الهائلة، وكأن الحكايات تنسال وتسيل خارج إطار اللوحة، وهو ما تم الإيحاء به بشدة، فرغم كل هذا الزخم والصخب، تبدو الحكاية الطويلة غير المُنتهية، ربما كإشارة ذكية من صاحبة اللوحات ليستكمل المُشاهِد الحكاية من وحي خياله، أو يتماهى تماماً مع هذه الشخوص وعوالمها.
هذه الشخوص التي تبدو بلا ملامح محددة، فقط تكوين خارجي، وإضاءة تقترب من إضاءة السلويت، وكانها شخوص خيالية، ولنا أن نسقط عليها ملامح قد طالعناها هنا أو هناك من ذاكرتنا، أو من مُشاهداتنا اليومية، أو حتى علاقاتنا الشخصية، وما يؤكد ذلك ــ تماهي الذاكرة ــ هو العالم السردي المُسيطر على اللوحات بامتياز، والذي تنتهجه الفنانة في تشكيل اللوحة ومكوناتها من حيث شغل المساحات اللونية، والتكوينات البشرية والفضاء العام للوحة/البيئة، وكذلك التوحد التام ما بين الإنسان والحيوان، وكأنها حالة من التناغم الأبدي، هذا التناغم سيبدو في شكل آخر عند تجسيد لحظات ثورة 25 يناير، حيث التنويعات البشرية من جميع الفئات الاجتماعية، وهنا يصبح الحشد ويتحول إلى صوت واحد قوي، حكاية واحدة طويلة وصراع حاد يحاول إطار اللوحة أن يُحيطه بالكاد، ويُمسك به في صعوبة بالغة، تحاول اللحاق والتعبير عن الحدث الاستثنائي، وهو أيضاً ما يُعد حافز للذاكرة على عدم نسيان هذه اللحظة الفارقة في حياة المصريين، بكل توتراتها وخِفتها الروحية إن جاز التعبير.

المرأة

لا يخفى الاحتفاء الشديد من الفنانة بالمرأة وتحولاتها عبر اللوحات أو حتى في اللوحة الواحدة من طفلة تلعب ألعاب القرى، إلى الحبيبة المُنتظرة، أو حتى التي تستمع إلى شكوى حبيبها، أو حتى المُعاقبة له بالنظر للناحية الأخرى، دون الاهتمام بما يقول، وصولاً إلى الأم التي تحمل طفلها دوماً، وحتى الرمز الذي يتحلق حوله الجميع (مصر) فالسرد هنا أيضاً يتخذ من المرأة البطل الأوحد، دون مواربه، هي لوحات تمزج بين الأرض الأم والمرأة، وتكاد تصل إلى المرأة الإله، كما في عبادات القدماء، وهو ما أوحت به بعض أوضاع الجسد الإنساني ــ وضعية البروفايل ــ التي كان يستخدمها المصري القديم في جدارياته ورسومه في المعابد.
حتى في اللوحة التي تتسم بالمباشرة وإن كانت تعبّر عن الحال، حيث الجدل والسفسطة، والكلام لمجرد الكلام، دون أن يستمع المتحدث أو المُثرثِر حتى إلى صوته، تم تجسيد الجسد الضخم الأكبر لامرأة تحاول السير إلى الأمام، وخلفها ثقل كبير من الأجساد الصغيرة المحتشدة والمُتداخلة، حيث عباراتها غير المفهومة، وقد ملّت المرأة من كل هذا الهراء.
وبينما دورها المُتكرر عبر اللوحات من طفلة تلعب لعبة الحَبْل، وحتى إلهة لم تزل تحتفظ بها الذاكرة الجمعية، يبدو الرجل وكأنه ظِل، مجرد ظِل، وتكاد تنقلب الآيه، من حيث نسب الحجم بينه وبينها، حتى وأنه في العديد من اللقطات ــ في اللوحة الواحدة ــ يكاد هو الذي يخرج من ضِلعها، على العكس من الموروث الديني وأساطيره، التي جاءت بها الديانات التوحيدية.

الكتابة والتدوين

الملمح الأساسي للوحات، والذي لا يتجزأ من التكوين الكُلي لها، هو العبارات التي تصاغ منها اللوحة، في كل متكامل، وكأنها والشخصيات في حالة قصوى من التناغم.
هذه العبارات المُستمدة من التراث المصري الحكائي/الشفهي، كالحِكَم والأمثال الشعبية، وصولاً لعبارات شعرية لكل من (فؤاد حداد) ورباعيات (صلاح جاهين) والمقطوعات الثورية لـ (أمل دنقل) ــ خاصة قصيدته لا تُصالح ــ حيث قد تتشكل الأبيات وكأنها خلفية تتكون منها البيوت المتلاصقة، أو تصبح الحروف ككائنات خرافية، يتم بها استكمال المنظور الشعبي للحكايات الأشخاص، وكأن لسان حالهم يشي ويقول. حتى أن إحدى اللوحات تبدو كمقطوعة نثرية طويلة، وكأنها في تشكيلها وطريقة توزيع العبارات أشبه بالبرديات الفرعونية.

رسومات الكهوف البدائية

من وجوه غير محددة الملامح، وتكوين جسدي بسيط، وتشكيل بصري يوحي بالقِدم، بل والإيغال به، يُذكّر برسومات الكهوف البدائية، وهو ما حاولت الفنانة الإيحاء به في بلاغة تجريدية شديدة، ليبدو الأمر أشبه برسوم أطفال القرى، وهو أمر غاية في الصعوبة، خاصة في حالة الدراسة الفنية الأكاديمية شديدة التعقيد والتنظير، وهو ما خلق حالة من التماهي مع المتلقي، والتواصل مع اللوحات دون عوائق تقاليد أو تقليد بالمعنى الأدق للحداثة وما بعدها، خاصة في ما يخص أساليب التجريد الفني. فالتجريد هنا لخلق حالة من الوعي الجمعي، والتذكير بزمن بعيد، تخشى صاحبته نسيانه، فتحاول جاهدة أن تُدخِل المُتلقي معها في التجربة.

اللون والحركة

ومن خلال الألوان التي توحي بالقِدم في جميع اللوحات، قالت الفنانة (هيام عبد الباقي) إنها تقوم بتحضير تكويناتها اللونية في ما يُشبه بدرجة كبيرة طريقة التحضير الفرعونية، من حيث تراكيب اللون الطبيعية، حسب ما توحي بها حالة اللوحة، وما تريد إيصاله من خلال هذا اللون أو ذاك، ونظراُ لتراثية الشكل الذي اختارته، فأنها فضّلت هذه المجموعات اللونية … ما بين الرمادي والبني المحروق والأزرق القاتم. أما تكوين اللوحات، وإن أردنا تسميته بالكادر البصري، فاللوحة الواحدة بها الكثير من الحركة في التكوين، رغم تسطيح شكل الشخوص لحساب البيوت التي توحي بالعمق، وهو أمر يبدو للتجريب أقرب، ويخلق شكلاً من الحركة في اللوحة ككل، وإيقاعاً يتجزأ عبر تقسيم اللوحة الواحدة إلى كادرات بصرية أكثر، وقد نجحت الفنانة في خلق هذا الإيقاع والحفاظ عليه بدرجة كبيرة.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *