الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد قرأت ما جاء في ملحق الدين والحياة تعقيباً من الكاتب الإعلامي جمال خاشقجي على مقالي السابق في نفي صحة ما نسبه إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من القول بأن ولاية بناظير بوتو لرئاسة مجلس الوزراء ليست ولاية عامة! ذلك القول الذي يتعارض صراحة مع ما حرّره الشيخ ابن باز رحمه الله بنفسه من جواب خطي لمجلة المجتمع – آنذاك – أكَّد فيه أن ولاية مجلس الوزراء ولاية عامة.
وهنا أشكر الكاتب جمال خاشقجي على هذا التفاعل مع الموضوع؛ ومن فوائده أنَّنا اطلعنا على تفاصيل جديدة عن ذلك اللقاء؛ إذْ قرأنا في العدد التالي مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني أجزل الله مثوبته، فقد أتحفنا بتفاصيل مهمة عن قصة لقائهم بسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، وهي المداخلة التي جاءت تعقيبا واستدراكا على الرواية التي نشرتها جريدة الحياة عن الكاتب جمال خاشقجي والرواية التي جاءت في تعقيبه في ملحق الدين والحياة بصحيفة عكاظ. وهنا أريد أن أقف مع تعقيب الكاتب الإعلامي جمال خاشقجي ومع مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني وقفات أرجو أن تكون نافعة ومفيدة لنا جميعا. وهي كالتالي:
أولاً: مدار النقّاش وصلب الموضوع هو: التحقق من دقة ما نسبه الكاتب جمال خاشقجي إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من القول بأن ولاية بناظير بوتو لرئاسة مجلس الوزراء ليست ولاية عامة! وذلك في قوله في جريدة الحياة إن الشيخ ابن باز رحمه الله قال: ” إن الولاية المنهي عنها في الحديث هي الولاية العامة، وولاية بوتو ليست كذلك”. وقد جاء في التعقيب والمداخلة ما يثبت عدم صحة هذا القول عن الشيخ أيضاً، ومما يؤكِّد ذلك ما يلي:
1) جاء في تعقيب الكاتب جمال خاشقجي ما يكشف وقوع وهم في نقله عن الشيخ رحمه الله، ويبدو أن من أسباب ذلك: وجود لبس في تصور المسألة السياسية لديه؛ فقد أورد في تعقيبه رواية تختلف اختلافا واضحا عما قاله في جريدة الحياة، فقد جاء في تعقيبه في ملحق الدين والحياة بعكاظ، ما نصّه: “واستفتيته في أمر ولاية بنازير فرد رحمه الله دون تردد (إن رئاسة الوزارة ليست الولاية العظمى) وإنه على الرغم من تحفظه على ولايتها كامرأة، فإنه لا يجوز الخروج عليها خوفا من الفتنة “؛ وقد أحال في ذلك إلى مقالٍ له نشره قبل بضع سنوات (مع تحفظي على ما ورد في مقاله ذاك، من معلومات وأحكام وأسلوب خطاب). بينما جاء في تصريحه لجريدة الحياة ما نصّه: ” وسألته [ يعني الشيخ ابن باز رحمه الله]عما إذا كانت ولاية بوتو شرعية، وأنه يتعين على الباكستانيين خلعها، وحاولت دفعه لإصدار فتوى ضدها، لكنه رفض، وقال: إن الولاية المنهي عنها في الحديث هي الولاية العامة، وولاية بوتو ليست كذلك “.
ووجه الاختلاف بين الروايتين يكمن في الفرق بين الولايتين: (الولاية العامة) و (الولاية العظمى)، وهو فرق واضح ومعروف عند المتخصصين وغيرهم ممن لهم عناية بالثقافة الإسلامية، وتوضيحا لذلك – بعيدا عن التعريفات العلمية الأكاديمية – أقول: تعد الولاية العظمى رأس الولايات وأساسها، فهي منصب الرجل الأول في الدولة كالملك في نظام الحكم الملكي والرئيس في النظام الجمهوري مثلا، أما الولايات العامة فهي وإن كانت تشمل الولاية العظمى أو الإمامة العظمى عند الإطلاق، إلا أنها أوسع مدلولا، فإنَّها تطلق على الولايات المتفرعة عن الولاية العظمى مما يتعلق بتدبير شؤون الكافة، كولاية الوزراء مثلا، فالوزير صاحب ولاية عامة في وزارته، مع أن ولاية الوزارة ليست ولاية عظمى، وبعض الباحثين يلحق رئيس الوزراء بمنصب الإمام الأعظم، في الدساتير التي يكون تفويض الرئيس فيها لرئيس الوزراء عاما، فيشترط فيه ما يشترط في الإمام الأعظم.
وعلى كل حال؛ فمحل الإشكال في موضوعنا هو إخراج منصب رئاسة الوزراء من (الولاية العامة)، لا رئاسة الوزراء من (الولاية العظمى)؛ والحقيقة أنَّ رئاسة الوزراء من الولاية العامة، وهو ما أثبته الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله في جوابه الذي حرّره مكتوبا لمجلة المجتمع، والذي نقلت نصّه في المقال الأول.
والتفريق بين منصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء موجود أيضا لدى القانونيين، فإنهم يفرقون بين المنصبين، حتى لو كان شخص رئيس الدولة هو نفسه شخص رئيس الوزراء، ولدينا – الآن – في المملكة نجد أن الملك هو ذاته رئيس مجلس الوزراء؛ ولكنه يتولّى مهام منصب الملك، بصفته ملكا، ومهام منصب رئيس مجلس الوزراء بصفته رئيسا لمجلس الوزراء لا بصفته ملكا؛ وكلها من الولاية العامة.
2) ما جاء في تعقيب الأخ جمال خاشقجي من توضيحٍ لسبب فتوى الشيخ بعدم سحب الثقة من حكومة بوتو، فقد قال في النص الذي أوردته عنه في الفقرة السابقة: ” وإنه على الرغم من تحفظه على ولايتها كامرأة، فإنه لا يجوز الخروج عليها خوفا من الفتنة “، وهو ما بيَّنه أكثر في تأكيد ما ذكرته في سبب منع الشيخ رحمه الله للخروج على بناظير بوتو في حال ثبوت الفتوى عنه. فقد قال الأخ جمال في تعقيبه على ما ذكرته بهذا الشأن: ” هذا التحليل صحيح، فالشيخ لم يوافق على ولاية بوتو بالشكل المطلق، وفتواه التي نشرت بالمجتمع كانت عن ولاية المرأة بشكل مطلق فكان رده الشرعي المتوقع ولكنه كان واقعيا، وعندما كان السؤال عن حكم الخروج عليها أو نقض ولايتها والتظاهر ضدها كانت إجابته متفقة أيضا مع النهج السلفي الصحيح بعدم الخروج عليها درءا للفتنة “.
وهنا نجد الأخ جمال قد أوضح أنَّ منع الشيخ للخروج على بوتو ليس لأنه يرى جواز ولاية المرأة، وهو بهذا ينقض ما يفهم من تصريحه لجريدة الحياة بهذا الشأن، وهو ما كان محلا لتعليق كاتب جريدة الحياة على تصريحه. وهذا اضطراب يؤثرٌ في دقة ثبوت الرواية.
3) جاء في تعقيب الشيخ صالح كشف لعدد من المسائل المهمة، في نقد رواية الأخ جمال خاشقجي، ومن أهمها: المسألة محل النقاش مع الشيخ رحمه الله، فقد بيّن لنا الشيخ صالح أنَّها كانت: سحب الثقة عن حكومة بوتو، لا الخروج على ولايتها؛ وفرق بين الأمرين، فالأول سياسي قانوني، والثاني غير قانوني، والأمر ليس كذلك في مسألة الخروج على الولاية، واستعمال المسائل المتاحة قانونا الجائزة شرعا أمر مشروع بخلاف عكسه. وهذه المسألة وما جاء في جواب الشيخ لها من تفاصيل تكشف الفقه السياسي الشرعي للواقعة بظروفها، فالشيخ رحمه الله قد صرح بسبب منعه من سحب الثقة، وهو الأمر الذي يفهمه من له معرفة بمنهج الشيخ وتراثه العلمي السياسي.
4) أنَّ الرواية التي رواها الأخ جمال خاشقجي – سلمه الله – كانت غريبة جداً على (مجموعة العلماء؟!) الذين ذكر أنَّهم كانوا معه حينها؛ فقد نفى الشيخ صالح السحيباني علمه بأي طرح لها فضلا عن جواب الشيخ عليها، وقد أكَّد هذا النفي رفيقهما في الذهاب إلى الشيخ المهندس وائل جليدان.
وهذا ما يزيد تأكيد تعارض تلك الرواية مع فقه الشيخ رحمه الله، وهو الأمر الذي حسمه من قبل ما حرَّره سماحة الشيخ رحمه من جواب خطي يناقض مضمونها؛ فقد جاء في مداخلة فضيلة الشيخ صالح السحيباني – سلمه الله – ما نصّه: ” أما بالنسبة للولاية العامة والخاصة فلا أتذكر أن الحديث مع سماحته تعرض لذلك، وإن كان من نقاش حول هذه، فأجزم قاطعا أني لم أسمعه ومن باب التأكد والحرص فقد اتصلت بأخي الاستاذ وائل لعله يتذكر هذا النقاش والحوار في موضوع الولاية فاخبرني بأنه لا يتذكر شيئا من هذا القبيل.
ولعله من المستحسن في هذا الخصوص أن يعود الأستاذ جمال إلى الشريط الذي سجل فيه الحوار مع سماحته آنذاك أو يرجع إلى الأرشيف في جريدة (المسلمون) لعله يعثر على نص الحوار المنشور في الجريدة مع سماحته.”.
ابن باز والديمقراطية:
ثانياً: ورد في تعقيب الأخ جمال وسؤالات الملحق ما يحسن التعليق عليه، لعموم الفائدة، ولاسيما أنَّه تضمن مسائل ينبغي توضيحها من وجهة نظر شرعية. وأجملها في قضايا ثلاث:
1) أؤكد ما ذكره الأخ جمال خاشقجي من أنَّ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، يرفض الديمقراطية كفكر، ولكني أريد أن أوضح أنَّ موقف الشيخ رحمه الله من الديمقراطية كمنظومة فكرية مرفوضة، يختلف عن موقفه من الانتخابات كآلية مشروعة لاختيار أهل الولاية، إذ لا تلازم بين الأمرين عند عامة فقهائنا. وما يزعمه بعض الكتاب من أن العلماء في بلادنا يمنعون الانتخابات مطلقا كلام غير صحيح، والحديث في بيان ذلك يطول، وإنَّما أردت التنبيه إلى هذه القضية التي يرددها بعض الكتاب في الداخل والخارج، ولو رجعوا إلى فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية لتأكد لهم بطلان هذا الزعم. فقد أفتت اللجنة الدائمة بعدة فتاوى في مشروعية الانتخابات وقيودها وضوابطها، وسبقت بذلك مجمع الفقه الإسلامي.
مصادرة التسامح؟!
2) جاء في خاتمة تعقيب الأخ جمال خاشقجي ما نصّه: ” أرجو ألا يقع بعضنا في فخ مصادرة التسامح الذي تميز به الشيخ رحمه الله وفقهه السياسي الذي يغلب المصلحة العامة على هوى الجمهور فنصادر فكره ومنهجه المتسامح لخدمة تيار الغلو الذي ساد وذلك بانتقاء فتاوي الشيخ وتصريحاته التي تخدم غرضهم الذي أتعبنا وأشقانا سامحهم الله وردهم إلى جادة الاعتدال والوسطية”.
وهنا أريد أن أعقب بأمرين:
أولهما: أنَّ لفظة (التسامح) من الألفاظ التي تحتمل معنيين:
أ – معنى صحيح يتفق مع ديننا، وهو ما يعرف بالمعنى الشرعي للتسامح، ومداره على حقيقة العدل الإسلامي الذي يجمع بين الصدق في القول والحكمة في الدعوة وعدم الخروج على ثوابت العقيدة وأحكام الشريعة. ومن خصائصه: الرحمة والإحسان والوفاء بالعهود والمواثيق.
ب – معنى فاسد وافد، وهو ما عُرّف به في بعض وثائق التسامح الأجنبية: “التسامح شكل من أشكال التحرر، التحرر من التحيز، والتحرر من العقيدة الجامدة! “. وهو المعنى الذي عبّر عنه شاتليه في قوله: ” مما يدعو إلى الاغتباط والسرور أننا اقتطفنا ثمرات أعمالنا في كل منطقة من مناطق التبشير، فالأوهام تبدّدت وحل محلها التسامح! والاهتمام الحقيقي بالتعاليم النصرانية..” وهو أيضاً ما عبّرت عنه مخططات مؤتمر كلورادو عام 1978م: ” ثبت أنَّ الإسلام أرض وعرة صلبة، وأنّ الطريق مسدود، وأنّ مواجهة الكتاب والسنة لم يأت بنتيجة، فلنبدأ الاختراق من الداخل، بمعنى: عدم مواجهة القرآن، بل اختراقه! ولنبحث عن المصطلحات المشتركة بين الإسلام والمسيحية ” وذكروا لذلك عدة أمثلة.
وإنَّ مما دعاني للتذكير بهذا التقسيم للمعنى المحتمل للحق والباطل، ما نشاهده من استعمال لكلمة التسامح في غير موضعها، وما نراه من تفسير لها بغير معناها الشرعي؛ فعلينا أن نوضح المراد من الكلمات التي قد تُخترق بها ثوابت الأمة، والتنبيه إلى خطورة المعاني الفاسدة، كما هو النهج الشرعي في التعامل معها، كما في قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) مع أن مؤدى الكلمتين في الأصل واحد، لكن لما استعملها اليهود استعمالا فاسدا، أمر الله تعالى المؤمنين بالعدول عنها.
ومما يلطف ذكره أن الأمم المتحدة قد استعملت في عنونة بعض مطبوعاتها حول التسامح عبارة (ما هو إلا العدل)! ونقول: العدل شريعة الله، والتسامح هو العدل والوسطية فيها.
وثانيهما: أنَّ التسامح لا يعني بحال من الأحوال التساهل في نقل الفتاوى عن العلماء، ولا السكوت عن بيان الخطأ في نقلها، مهما كانت النوايا. ولا يتعارض هذا مع الأصل في حمل المسلم على المحمل اللائق به. فالسكوت على الخطأ شيء والتسامح مع المخالف في الرأي السائغ شيئ.
الانتقائية مع العلماء؟!
3) نبّه الأخ جمال خاشقجي في جوابه على موضوع مهم، كشف فيه النقاب عن سوء تعامل فئة الغلو مع فتاوى العلماء، التي تقوم على الانتقائية؛ ومع تأكيدي لما قاله أضيف: إن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل وجدنا منهم من يحكم على العلماء ويصفهم بما لا يليق بهم..
وكم كنت أتمنى أن يكون الأخ جمال خاشقجي أكثر إنصافا وشجاعة، فلا ينسى الفئة المقابلة في الفكر: فئة الجفاء التي تسير في ذات الطريقة الممقوتة، فتنتقي من فتاوى العلماء ما يناسب خططها وأغراضها التي أساءت كثيرا لسياسات الوطن وأنظمته ومؤسساته الشرعية وشوهتها أمام العالم، تلك الفئة التي تُشغِّب على الفتاوى الشرعية التي لا تخدم جفاءها، وإن كانت صادرة من العلماء الذين تنتقي بعض فتاويهم، وقد وجدنا من فئة الجفاء من يُحرّف فتاوى العلماء مع التعمدّ عن قصدٍ لا عن سوء فهم، وقد رددت على بعضهم من قبل.
كتب عن ولاية المرأة:
4) فيما يخص موضوع ولاية المرأة لم أتحدث عن وجهة نظرٍ تخصني؛ ومن ثم فإنني أحيل إلى بعض الرسائل العلمية المحكمة التي تكشف الحقائق وتبين مواطن الإجماع في المسألة، وتحرِّر أقوال الفقهاء فيها، وتناقش الأدلة التي تطرح من كل فريق بأسلوب موضوعي، ووفق منهج علمي، بعيدا عن اللغط الإعلامي والمغالطات الصحفية التي لا يجيزها المنهج العلمي. فمن تلك الرسائل العلمية المطبوعة، التي فيها مناقشة لما يردِّده بعض الكتّاب حول موضوع ولاية المرأة وحقوقها السياسية:
– ولاية المرأة في الفقه الإسلامي، لحافظ محمد أنور، وهي رسالة علمية بإشراف الشيخ الدكتور صالح السدلان. تقع في أكثر من ثمانمائة صفحة.
– المرأة والحقوق السياسية في الإسلام. للدكتور مجيد محمود أبو حجير. وقد حكمها كل من الأستاذ العلامة فتحي الدريني، والأستاذ محمد عثمان شبير.
هذا ما رأيت التعقيب به ختما لما طرحته من قبل وجوابا على ما جاء من تعقيب، ابتغاء الوصول للحقيقة، وبيان فقه السياسة في هذه الشريعة، والله الموفق.