معن بشور
بالتأكيد لا ترحل شخصية كبيرة فاعلة في حياة بلادها، كالرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، دون ان نتذكّر ان في مسيرتهم ما هو لهم وما هو عليهم، “فنصف الناس أعداء لمن وليّ الاحكام هذا إنْ عدل” .
وبالتأكيد كنت كواحد من محبي الجزائر والحريصين على استقرارها وتقدمها ودورها العربي والإسلامي والافريقي، من الذين كانوا يفضلون ألاّ يدخل الرئيس بوتفليقة ، وهو أحد أبناء الثورة العظيمة، تجربة “العهدة الخامسة” في الانتخابات الرئاسية، خصوصاً في ظل وضعه الصحي الصعب، مما أدى الى قيام حراك شعبي كبير قاد الى استقالته وخروجه من الجزائر وهو أمر ما كنّا نريده لرجل كبوتفليقة قاتل في صفوف الثورة، وخدم عهد الاستقلال الأول مع الزعيم هواري بومدين، وأسهم في قيادة مسيرة الوئام الوطني التي أخرجت بلاده من العشرية الدامية، وبقي مع أخوانه سداً منيعاً بوجه محاولات التطبيع مع العدو لا سيّما بعد احتلال العراق، وإخراج الجيش السوري من لبنان، واغتيال الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، وكانت له كلمة شهيرة عشية انعقاد القمة العربية في الجزائر عام 2005 حين قال :” ليست الجزائر البلد الذي يمرّ فيه التطبيع” وهو الموقف ذاته الذي تتخذه الجزائر اليوم مع رئيسها الدكتور عبد المجيد تبون ووزير خارجيتها رمضان العمامرة .
لم تسمح لي الظروف ان التقي بالرئيس بوتفليقة رحمه الله إلاّ مرّات قليلة، واحدة منها حين استضافت الجزائر المؤتمر القومي العربي في دورة 2000، بعد تسلمه رئاسة الجزائر بقليل، وبعد التواصل مع امين عام المؤتمر آنذاك الراحل العزيز الأستاذ عبد الحميد مهري، الذي كان بوتفليقة يكنّ له احتراماً خاصاً، برغم المواقف المعارضة والجريئة للأستاذ مهري.
ويوم عقدنا الملتقى العربي الدولي لنصرة الاسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني عام 2010، فتح لنا الرئيس بوتفليقة بعد اتصال من الرئيس أحمد بن بله، قصر الصنوبر لعقد ذلك الملتقى الذي ضم الالاف من المناصرين العرب والدوليين لقضية الأسرى، بالإضافة الى عدد كبير من الاسرى المحررين من فلسطينيين ولبنانيين وذويهم، وكان لقاؤهم مؤثراً.
تستحق العلاقة بين الرئيس بوتفليقة والرئيس بن بله، كما مع الأستاذ مهري، دراسة خاصة، فبوتفليقة كان يعتبره الرئيس بن بله مهندس انقلاب الرئيس بومدين ضده في 19 جوان/حزيران 1965، حيث أمضى بن بله سنوات طويلة في السجن، ومع ذلك كانت العلاقة بين الرجلين بعد عودة بوتفليقة الى السلطة استكمالاً لعلاقتهما كرفيقي سلاح خلال الثورة.
وفي هذا الاطار لا بد أن أروي حادثة حصلت معي في صيف 1997، بعد ان لبى الرئيس بن بلة دعوة المنتدى القومي العربي في لبنان ليكون ضيف احتفالات المنتدى السنوية بذكرى ثورة 23 يوليو الناصرية، وشهدت زيارة بن بله وبصحبته الراحلة زوجته زهره وابنته الشابة مهدية، والتي دامت أسبوعين كاملين، استقبالات منقطعة النظير في كل لبنان ومن كل بيئاته السياسية والاجتماعية، حتى قال اول رئيس جزائري بعد الاستقلال: لم اجد استقبالاً لي بعد استقبالي في الجزائر يوم الاستقلال، كالاستقبال الذي شهدته في لبنان، متذكراً وقفة اللبنانيين الى جانب ثورة الجزائر …”
بعد تلك الزيارة دعانا سفير اليمن الموحّد الى الغداء في بيته على شرف الرئيس اليمني الأسبق الصديق علي ناصر محمد، وكان من ابرز الحاضرين الأستاذ عبد العزيز بوتفليقة وكان يعيش يومها في دولة الامارات العربية، وحضر الى بيروت تلبية لدعوة من مركز دراسات كان يرأسه الرئيس علي ناصر محمد،
فاجأني الرئيس بوتفليقة الذي لم اكن قد قابلته من قبل بدعوته لي للتنحي جانباً، وإذ به يبدي اعتراضه على الطريقة التي استقبلنا بها الرئيس بن بلة في لبنان وقد بات نسياً منسياً في بلاده ، ومع انه تكلم عن مراحل جمعته و بن بله لكنه لم يقصّر في ذكر سلبيات حكمه…
فقلت لبوتفليقة ولم يكن قد أصبح رئيساً :” نحن في استقبال احمد بن بلة كنا نكّرم ثورة الجزائر برمتها، وكنا نكّرم رجلاً هتفنا له من قلوبنا مع رفاقه الذين اختطفهم الفرنسيون مع طائرتهم المتوجهة من المغرب الى تونس عشية العدوان الثلاثي على مصر في أواخر اكتوبر 1956.
واستطردت قائلاً لبوتفليقة : انا لم أسمع من بن بله إلاّ كل كلام طيب عنك، وعن ذكائك وكفاءتك ومعزّته الشخصية لك رغم الخلافات السياسية .
ارتاح بوتفليقة للكلام وعاد ليعدّد إيجابيات بن بلة، وهو الكلام الذي نقلته لبن بلة فيما بعد ، على طريقة سياسة “مد الجسور” بين الاشقاء التي اعتمدتها المدرسة الفكرية والسياسية التي انتمي اليها .
لا أدري ماذا جرى بين الرجلين فيما بعد، ولكنني ككثيرين فوجئت بالطريقة التي تعامل بها بوتفليقة مع بن بله بعد توليه رئاسة الجزائر بعد عامين على ذلك اللقاء، وفوجئت أيضاً بمدى ترحيب بن بله بإيجابية بوتفليقة تجاهه وأذكر انه حين كنت في الجزائر في اطار التحضير لملتقى نصرة الاسرى الفلسطينيين حيث تحمّس الرئيس بن بله للفكرة، باعتباره يعرف “معاناة الأسير” ، كما قال، وتعهد بالاتصال المباشر بالرئيس الجزائري الذي استجاب على الفور وتوجه رئيس اللجنة التحضيرية للملتقى الأستاذ عبد العزيز السيد ومديرة عام المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن الأستاذة رحاب مكحل الى الجزائر ،واجتمعا بأمين عام جبهة التحرير الجزائرية الأستاذ عبد العزيز بلخادم حيث كان نجاح لافت للملتقى.
لم تكن علاقة بوتفليقة بمهري مختلفة في جوهرها عن علاقته ببن بله، لكن المناضل الجزائري الكبير عبد الحميد مهري بقي معارضاً لحكم الرئيس بوتفليقة حتى رحيله، غير أن الاحترام بين الرجلين لم يغب يوماً واحداً، ولم يطلب مهري أمراً من بوتفليقة كعقد دورتين للمؤتمر القومي العربي في الجزائر عامي 2000 و 2005 إلاّ وكانت الاستجابة، والامر نفسه حصل يوم اتصل مهري طالباً تسهيل انعقاد دورة مخيم الشباب القومي العربي في الجزائر فكان له ما اراد .
أروي اليوم هاتين الحكايتين مع رحيل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقه، لا لأقلل من حجم الاعتراض الشعبي على حكمه، لا سيّما في السنوات الأخيرة، ولكن لأسهم في تعزيز ثقافة الانصاف في بلادنا، فلكل رجل تولى مسؤوليات له ما له وعليه ما عليه، والانصاف يقتضي ان ننظر بالعينين لا بعين واحدة.
كاتب لبناني
Source: Raialyoum.com