مفتاح حياة القلب (1/2)

مما يعين على التدبر: اليقين التـَّام أنك مع القرآن: حيٌّ، مبصرٌ، مهتدٍ، وبدونه أبشر بأضدادها، فأنت بدون العيش مع القرآن: ميت، أعمى، ضال، وبقدر البعد يزداد النصيب من هذه الأوصاف...

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
يسأل كثير من الإخوة ـ الذين أيقنوا بأن التدبر هو مفتاح حياة القلب(1) ـ عن الأسباب التي تعين على سلوك هذا الطريق، ووضع القدم فيه.
ولا ريب أن أولى الناس بالحديث عنه، هم أولئك الذين أفنوا جزءاً من أعمارهم في هذا المضمار، ولكن لما كثر الإلحاح، وكان في كلام أهل العلم ما يساعد على الحديث عن هذا الموضوع ـ مع تجربة قصيرة فيه ـ كتبت هذه الكلمات التي لا تغني عن الرجوع إلى ما كتب أو طرق عبر الدروس الصوتية، فالحديث عن هذا الموضوع يحتمل مجلداً كبيراً بلا مبالغة؛ لعل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها مفتاحاً للولوج في هذا الموضوع.

وهذه الإشارات يمكن تلخيصها في أمرين رئيسين:
الأمر الأول: في ذكر بعض الأسباب المعينة على التدبر.
الأمر الثاني: في ذكر بعض الموانع التي تمنع، أو تضعف، أو تحرم من عبادة التدبر.

أما الأسباب، فمنها:
السبب الأول: اليقين التـَّام أنك مع القرآن: حيٌّ، مبصرٌ، مهتدٍ، وبدونه أبشر بأضدادها، فأنت بدون العيش مع القرآن: ميت، أعمى، ضال (وبقدر البعد يزداد النصيب من هذه الأوصاف).
تأمل معي هذه الآيات:
1 ـ “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا” [الأنعام:122] فإذا كان الذي أوتي القرآن معه نور يمشي به، ففاقده يتخبط في الظلمات!.

2 ـ “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [الشورى:52]. فإذا كان القرآن روحاً، ففقده موت!

3 ـ “وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى” [الضحى:7] فبأي شيء هداه؟!

السبب الثاني: أن تعلم أن الأصل في خطاب القرآن أنه موجه إلى القلب، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: أنّ القرآن نزل أولاً على القلب، تأمل هذه الآية: “قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ” [البقرة:97].
وهذه الآية: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ” [الشعراء:193-194].

ثانياً: كثرة تكرار لفظ القلب في القرآن، وأنه أُسند إليه ـ في الآيات ـ ما لم يُسند إلى غيره من الجوارح.
فالقلب وصف بأوصاف كثيرة إيجابية وسلبية: فقد وصف بالإيمان والكفر، واليقين والشك، والخوف والطمأنينة، … إلى غير ذلك من الأوصاف التي تؤكد منزلة هذا القلب، وأنه محط نظر الرب، وعليه المعوّل في الدنيا والآخرة، ألم تسمع ماذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ “وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” [الشعراء:87-89].

ثالثاً: أنَّ أعظم أثر ٍ للقرآن إنما هو في القلب.

رابعاً: أن المقصود الأعظم من القرآن هو تدبر القلب له.
قال تعالى: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” [محمد:24]، فإما التدبر أو الأقفال ــ وليس قفلاً واحداً ــ على القلب!

السبب الثالث: قراءة القرآن على الوجه الشرعي، ويتضح هذا بأمرين:
الأول: والأصل في ذلك أن القرآن نفسه بيّن الطريقة في ذلك من خلال الآيات الآتية:
1 ـ “وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً” [المزمل: من الآية4].
2 ـ “وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً” [الإسراء: 106].
3 ـ “لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” [القيامة:16-20].
ومن المستحسن مراجعة تفسير ابن كثير لهذه الآيات، مع تفسير السعدي؛ ليتضح المقصود، فالجواب لا يحتمل نقلها.

الثاني: نماذج تطبيقية للنبي_صلى الله عليه وسلم_، وهي كثيرة، منها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس س أنه سئل عن قراءة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم_؟ فقال: كانت مدّا، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.

أما السلف الصالح، فالأمثلة كثيرة جداً، أكتفي بمثال واحد، وهو قول ابن أبي مليكة: سافرت مع ابن عباس_رضي الله عنه_ فكان يقوم نصف الليل، فيقرأ القرآن حَرفاً حرفاً، ثم يبكي حتى تسمع له نشيجاً.

السبب الرابع: سماع القرآن ممن يتأثر به قلبك من القراء:
وأصل ذلك، أن النبي _ صلى الله عليه وسلم_ سمع القرآن من ابن مسعود، وقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فسمعه، فذرفت عيناه صلوات ربي وسلامه عليه.

السبب الخامس: النظر في سير الصالحين، وعلى رأسهم نبينا محمد، وأصحابه في تأثرهم عند القرآن:
وهناك كتاب جيد في هذا الباب اسمه: دموع القراء، لمحمد الرملي، ذكر فيه عدة نماذج مؤثرة.
وهناك كتاب آخر لأخينا الشيخ د. بدر البدر، اسمه: (التأثر بالقرآن والعمل به، أسبابه ومظاهره).

السبب السادس: قراءة ما يعين على فهم الآيات:
وهذا من أهم الأمور؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتأثر بشيء لا يفهم معناه.
وأنصحك أخي أن تقرأ في مختصر تفسير ابن كثير، ومعه تفسير ابن سعدي، ففهيما علم وتربية.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

________________
(1) هكذا قال عنه ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه “حادي الأرواح”: (101).

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *