كتب زوج نرجس الأفغانية خطابات جميلة لها حتى اثناء احتجازه في سجن لطالبان، لكن بعد أن عذّبه المتمردون وقتلوه باتت هذه الرسائل بمثابة تذكار مؤلم لخسارتها الفادحة حتى طلب منها متحف كابول عرضها.
وتعرض المساحة المتواضعة في قبو منظمة غير ربحية أفغانية في كابول عشرات “صناديق الذاكرة” المليئة بالتذكارات من صور ومجلات إلى عطور وألعاب أطفال بلاستيكية، كلها خلفها ضحايا الصراع.
كانت نرجس (48 عاما) أما مفلسة لخمسة أطفال كان أصغرهم يبلغ سبعة أشهر فقط، حين قتل زوجها قبل عقدين.
وبعد 11 عاما، فقد أحد أبنائها، الجندي في الجيش الأفغاني، ولم يظهر مجددا أبدا.
واصبح مركز أفغانستان للذاكرة والحوار أول متحف مخصص لضحايا الصراع في البلد الذي تمزقه الحرب منذ عقود طويلة.
وقالت نرجس “نحتاج إلى أماكن كهذه حتى يمكن تذكر الضحايا”. وتابعت الزوجة والأم المكلومة “أريد أن يعرف الآخرون من هو زوجي”، واصفة إياه بأنه أب مخلص ملأ دفاتره بأشعار ورسائل وجهها الى اطفاله.
-“الأشياء الوحيدة المتبقية”-
يهدف المتحف، الذي تم إغلاقه موقتا خلال أزمة فيروس كورونا، إلى القيام بما تريده نرجس بالضبط، بحيث يعرض روايات بالإنكليزية واللغة الدرية مصحوبة بصور الضحايا، صور ضبابية وصور استوديو، وفي بعض الحالات تذاكر هوية باهتة.
لكن صناديق الذاكرة هي التي تحكي قصصهم، وقصة أفغانستان، بتأثر كبير.
وتحكي دمية ترتدي حذاء بلاستيكيا أحمر وسترة مزيّنة بقلوب سوداء صغيرة حياة طفلة صغيرة قتلت في تفجير كابول، وقد جمع جدها تلك المقتنيات وقدمها للمتحف ليخلد ذكرى حفيدته.
تعرض العديد من المعروضات حداد كبار السن على صغارهم، ما يؤكد الخسائر الكارثية التي تواجهها دولة تواجه صراعا داميا منذ عقود.
ويضم المتحف غير المسبوق دفتر ملاحظات به خربشات طفولية تعود لطفل قتل حين سقطت قنبلة لطلبان على مدرسته، وميدالية حصلت عليها شابة تخرجت من كلية علوم وكانت تمثل قدوة لأختها الصغيرة، وحذاء يعود لشاب يبلغ 25 عاما قتل برصاص المتمردين.
ويخلد المتحف القصة المروعة لرجل فقد 15 من أفراد أسرته قتلوا على مدى 30 عاما، بينهم فتاة مراهقة قتلت برصاصة طائشة اخترقت منزلها خلال اشتباك بين جماعات مسلحة.
مع كل قتيل، تتزايد قيمة الذاكرة المادية للقتلى في شكل متزايد. ومقابل كل ناجية مثل نرجس، الحريصة على تحمل عبء الذكرى المؤلمة، كان هناك آخرون أكثر ترددا في مشاركة آلامهم.
وقال محمد شريف، الذي سُجن شقيقه داود وأعدمه الشيوعيون المدعومون من الاتحاد السوفياتي عام 1979 ، لوكالة فرانس برس إنه جاهد لإقناع أفراد عائلته بالمشاركة في المشروع.
قال شريف البالغ 57 عاما إنّ “هذه هي الأشياء الوحيدة المتبقية (من ذكرى) أخي”، مشيرا إلى صور داود والرسائل التي قام بتهريبها في أنابيب معجون أسنان فارغة.
وكان إيصالها إلى المتحف قرارا مؤلمًا للعائلة، ولاسيما أن جثة داود لم يُعثر عليها أبدا.
ويرجح شريف أن شقيقه ربما دفن في إحدى المقابر الجماعية العديدة المنتشرة في البلاد.
-“آلام الآخرين”-
مع استعداد القوات الأجنبية لمغادرة أفغانستان بموجب اتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، تم تهميش الضحايا إلى حد كبير رغم أن المحكمة الجنائية الدولية دعت مؤخرا إلى إجراء تحقيق في جرائم حرب محتملة.
وقالت الموظفة في المتحف فاطمة علوي إنّ “الغرض من فتح هذا المتحف ليس فقط عرض الأشياء”.
وتابعت “حين يأتي الناس إلى هنا، نريد أن نفتح حوارا معهم”. وبالنسبة لجواد ساخي زادا أثارت زيارة المتحف لديه ألما شديدا، أعقبه شعور مفاجئ بالراحة.
وكان الشاب البالغ 29 عاما دفن شقيقه الأصغر قبل أشهر فقط، بعدما قُتل في هجوم لتنظيم الدولة الإسلامية على حفل زفاف في كابول.
وأفاد وكالة فرانس برس “لقد حزننا لفترة طويلة”.
وتابع “عندما جئت إلى هنا، أدركت أن هناك آخرين في هذا البلد عانوا أكثر مني”، فيما يقف أمام مجسم شاهق مكوّن من ملابس مخضبة بالدماء وأحذية مغطاة بالغبار وساعات مكسورة تم العثور عليها في مواقع الانفجار.
وأضاف متأثرا “حين نرى ألم الآخرين، ننسى آلامنا”.
ويتطلع الآن للتبرع بزي أخيه للمصارعة وكتبه الدينية.
لكنّ قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل عرضها، إذ ينتظر أكثر من 600 شخص عرض ذكريات احبائهم.
في العام الماضي، عرض منظمو المتحف بعض المقتنيات خارج البلاد، فيما يستضيف المتحف بانتظام في كابول مجموعات وينظم مناقشات.
وقالت علوي لفرانس برس إنّ طموحاتها أكبر.
وأكّدت “نريد أن تأتي طالبان لتشاهد ذلك”.
© 2020 AFP