مثَّل الاستشراق، ولا يزال يمثل، تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ونحن ـ كما ذكرنا في المقال السابق بعنوان “الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة” أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج، الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ونرد الصاع بالصاعين، وفي هذا أظننا بحاجة إلى أن نعمل في مسارين اثنين في آن واحد:
الأول:size=3> تنقية الذاكرة الغربية من مخلفات استشراق القرون الوسطى والتي تثبط همم الغربيين عن دراسة الإسلام ومبادئه.
والثانيsize=3>: مناهضة المستشرقين أنفسهم مناهضة جادة وشاملة حتى يتهدم بنيان أفكارهم هدماً كاملاً ، بحيث لا يجد طريقاً للنهوض مرة أخرى .
ففي إطار الأمر الأول لا أظن أنه يكفي فيه مجرد الردود الكتابية، إذ إن مثل هذه الردود بذل الكثيرون فيها إلى اليوم مجهوداً مشكوراً ولكن رغم ذلك لازالت آثار الموقف المجافي للحقيقة، والذي ولدته كتابات العصور الوسطى في أوروبا، قائمة.
أما السبب في هذا الإخفاق في إزالة المفتريات الاستشراقية فأظن أنه يكمن في عزوف الإنسان الغربي عن قراءة الموضوعات الدينية وعن الاهتمام بكل ما هو ميتافيزيقي، بعد انتشار الفكر الإلحادي الذي ألقى الأديان كلها، من غير استثناء ، في سلة المهملات، فالبحوث الدينية التي ألفت في هذه الفترة، سواء أكانت تتعلق بالإسلام أم المسيحية أم غيرهما من الأديان لم تلق آذاناً صاغية في المجتمع الغربي، فلم يقرأها إلا العدد القليل؛ مما جعل الرؤى الاستشراقية عن الإسلام تظل باقية كعادتها في عقول الغالبية العظمى من الأوروبيين الذين يرثون تلك الرؤى خلفاً عن سلف. size=3>
بل الحال، كما أعتقد، يكمن- بالإضافة إلى إعداد كتب جيدة تعرض الإسلام بصورة موضوعية وتناقش المفتريات الاستشراقية بصورة علمية رصينة -في تحريك العمل الدعوى في العالم الغربي على نطاق أوسع بحيث لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا وقد طرقنا بابه ووضحنا لأصحابه حقيقة الإسلام والصورة الصحيحة التي كانت عليها حياة نبي الإسلام، وقبل هذا وذاك أن نخلق في الوعي الغربي أهمية التدين بإزالة ما به من شبهات إلحادية وتساؤلات لا دينية وذلك حتى ينصت الغربيون إلينا فيستمعوا إلى ما نود قوله بقلوب يقظة وعقول منتبهة.
أما في نطاق الأمر الثاني، وهو مناهضة المستشرقين وهدم بنيان أفكارهم، فينبغي علينا أن نضع في الاعتبار بأن أزمة الاستشراق هي أزمة المناهج، وليست أزمة التطبيق، أي أن المستشرقين بعد عصر النهضة بدؤوا يخضعون مصادر الإسلام – كما أسلفت ذكره – لقواعد المنهج الفيولوجي والتاريخي وعلوم الإنسان الاجتماع وكلها بمفاهيم غربية، مما جعل حقائق الإسلام تظهر في غير ثوبها بل تصبح مشوهة المظهر، مبتورة الأطراف.
فالخطأ إذن، يكمن في مناهج البحث أو في طريقة توظيف تلك المناهج في سبيل الوصول، إلى أهداف معينة، مما يحتم علينا إذا أردنا مناهضة الاستشراق حقاً وحقيقة أن نغربل تلك المناهج غربلة دقيقة وأن نشير إلى مكامن الخطأ فيها، وأن نبرز كيف أن تلك المناهج استغلت استغلالاً مجحفاً في سبيل الوصول إلى مآرب معينة، فعلى سبيل المثال استغل طه حسين- المنهج التاريخي والفيلولوجي في إبطال صحة الشعر الجاهلي ، بينما أثبت ناصر الدين الأسد، وباستخدام المناهج عينها صحة الشعر الجاهلي، مما يدل على أن الخطأ قد يكمن في طريقة توظيف واستغلال منهج ما وليس في المنهج عينة.
وأظن أن إبراز أخطاء المستشرقين في استخدام المناهج ثم إظهار الفكر الإسلامي وفقاً لمعايير المناهج المتقدمة ليس من الأمر المستحيل، غير أنه يبدو أننا في حين معارضة الاستشراق قد صرفنا معظم طاقاتنا في نقد التطبيقات الاستشراقية واكتفينا في حين تقديم الإسلام بالتزمت عند مناهج ينظر إليها المستشرقون نظرة الازدراء و يطلقون عليها بأنها (بالية) و(لا تاريخية)، وهناك بعض المستشرقين ممن لا يكتفون بهذا فقط بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرفضون أن تكون لدينا مناهج معاصرة أصلا، فهذا المستشرق المعاصر “فرنسيسكو غابريلي” يقول بعد أن تبجح بما لديهم من المنهجيات والأدوات: (لا ينبغي على أصدقائنا الشرقيين أن يطلبوا منا دراسة ماضيهم وحاضرهم على ضوء علم التاريخ الحديث الشرقي، أو الفلسفة الحديثة الشرقية، أو علم الجمال أو علم الاقتصاد الشرقي، لماذا ؟ لسبب بسيط هو أن ذلك غير موجود حتى الآن)!!
تطوير مناهج البحثsize=3>
فنحن، إذن، بحاجة إلى تطوير المناهج الموجودة أصلاً في تراثنا الغني، وكل ما نحتاج إليه هو إعادة إبراز تلك المناهج بقوالب معاصرة، وخلع الهيبة الأكاديمية الحديثة عليها، فما يتبجح به الغربيون من المناهج ليس إلا اقتباسات مما أبدعه العلماء العرب والمسلمون من المناهج في عصور الازدهار العلمي الإسلامي، فكل ما فعلوه هو تطوير تلك المناهج وإحداث بعض تعديلات طفيفة حتى يتساوق مع النسق الغربي في التكفير والتأمل ثم تجربة تلك المناهج في مجالات أوسع كما اقتضته طبيعة العصر.
فمسألة تطوير المناهج لكي تواكب مصطلحات العصر ليس من الأمر المستحيل، وأقل ما يمكن فعله في هذا الإطار هو القيام بعملية الغربلة والانتقاء، وإعادة صياغة ما يتوافر لدى الغرب من مناهج البحث والتفكير وفقاً للتوجهات والمفاهيم الإسلامية ثم قولبة الفكر الإسلامي وفقاً لخطوات ومصطلحات تلك المناهج الحديثة، وبهذه الصورة أظننا نستطيع أن نقف في وجه المستشرقين ونبطل ما يبدونه من عنهجية ويمارسونه من تطفل وتشويش على الفكر الإسلامي النقي الذي هم بعيدون عن كل البعد، قلباً وقالباً.
إنشاء علم الاستغرابsize=3>
وأمر آخر ينبغي فعله في إطار مناهضة الاستشراق وهو إنشاء علم (الاستغراب) في جامعاتنا ومعاهدنا المتخصصة بغية استيعاب الغرب واحتواء توجهاته وميوله الفكرية وكذلك كشف البنية التحتية للعقلية الغربية حتى تكون مناهضتنا للغرب والاستشراق الغربي متسمة بالدقة والإتقان ويكون خطابنا وردودنا نابعة عن موقف المسؤولية العقلية والنضج الثقافي وعلى مستوى الوعي الغربي والعقلية الغربية، ولعل إدوارد سعيد يمثل معلماً رائعاً في هذا الطريق.. فالرجل عربي فلسطيني حاول استيعاب الغرب وتوجهاته الاستشراقية استيعاباً أقل ما يمكن وصفه بأنه يتصف بكثير من الجدية والإتقان ، ثم هو بحكم معايشته الغربيين لمدة طويلة أتقن أسلوب مخاطبة العقلية الغربية مما جعل كتابه الذي أصدره عام 1978 ميلادي (بالإنجليزية) متناولاً فيه موضوع الاستشراق يحدث دوياً كبيراً في الساحة الثقافية الغربية بصورة عامة وفي محيط الاستشراق بصورة خاصة، وأظن أننا لو سرنا على خطى إدوارد سعيد وأسسنا دوائر متخصصة لإنجاز مثل هذه الأعمال فإننا سنحقق الكثير في سبيل الرد على التحدي الاستشراقي بجدارة وإتقان.
ــــــــــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله: “محمد شمس الحق”size=3>