بعض الناس تجده قبل الالتزام مرحـًا وخفيفـًا وبشوشـًا يجلس مع والديه وإخوانه يمازحهم ويضاحكهم ، فإذا ما من الله عليه بالالتزام قطب جبينه وعبس وكشَّر ، وخاصمت البسمة وجهه ، وأخذ ركنـًا وحده ، واعتزل أهل البيت ، إذا خرج أحس أهل البيت براحة كبيرة وبهم قد انزاح عن قلوبهم ، وإذا دخل سكت المتكلم ، وأمسك المبتسم ، وانكمش الأولاد في زاوية البيت ، كلامه أوامر ، وخطابه شديد ..، ..
هذا النوع من الملتزمين يتمنى أهله ألو بقي طيلة عمره بعيدًا عن الالتزام ، وعن هؤلاء المتشددين الذين خربوا عليهم الولد أو الرجل ، ومثل هذا يضر أكثر مما ينفع لجهله بالدين ، وأخلاقيات المسلمين ، وبكيفية الدعوة إلى رب العالمين .
اسمع إلى الله تعالى يقول لنبيه – صلى الله عليه وسلم – : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(آل عمران/159) ، وقال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة)(النحل/125) ، وقال تعالى : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت/46) .
وانظر إلى إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – يقول لأبيه وهو يدعوه : ( يَا أَبَتِ.. يَا أَبَتِ .. يَا أَبَتِ ) .. ونوح – عليه السلام – يقول لابنه : (يَا بُنَيَّ) .. وكل نبي يقول لقومه ( يَا قَوْمِ ).
فهي نداءات تحمل معنى الحب والقرب والصلة بين الداعي والمدعوين ، ففيها إشارة لمدى الرحمة بهم والخوف على المخالف والشفقة على المعارض ، فليس مقصد الداعي الاستعلاء بدعوته ، وإنما المقصد استنقاذ أكبرِ قدرٍ من الناس من الهلاك .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال : ” إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا ، فجعل الجنادب والفراشات يقعن فيها وهو يَذُبَّهنَّ عنها ، وأنا آخذ بِحُجَزكم ، وأنتم تفلتون مني ، تقحمون فيها ” .
ولما رجع – صلى الله عليه وسلم – من ثقيف وجاءه ملك الجبال فقال له : إن شئت أن أُطْبقَ عليهم الأخشبين ؟ فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئـًا .(متفق عليه) .
وهكذا كان سبيله في دعوته – صلى الله عليه وسلم – اللين والرفق بالمدعوين . كما روى مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عليه – قال : ” بينما نحن في المسجد مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مه مه ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : لا تزرموه – لا تقطعوا عليه بوله فتضروه – دعوه ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ، قال : وأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماءٍ فسنَّه عليه – أي صبَّه عليه – ” .
وروى مسلم عن معاوية بن الحكم السُلمي قال : ” بينما أن أصلي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أماه ، ما شأنكم تنظرون إليَّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فبأبي وأمي ما رأيت معلمـًا قبله ولا بعده أحسن تعليمـًا منه ، فوالله ما نهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني ، ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، وإنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ” .
وجاء رجل إلى هارون الرشيد فقال : إني ناصحك بمغلظ لك في النصيحة ؟ قال : لا ، إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني ، فقال له : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(طـه/44) .
فباللين تستلين قلوب الناس ، وبالرفق تجتذبهم إلى طريق الحق .
………………….