المتتبع لتاريخ البشرية يعلم أن هناك حضارات كثيرة تتابعت على أهل الأرض، وأن هذه الحضارات ليست حكرا على بلد أو أمة، ولا تختص بأرض أو عرق، وإنما حيث توفرت عوامل قيامها قامت، ثم إذا أصابتها عوامل الانهيار سقطت.
غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من جراء قيامها، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها كانت أخلد في التاريخ وأنفع للبشر، وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم.
وقد تحدث الشيخ الدكتور مصطفى السباعي عن خصائص الحضارة الإسلامية وما تميزت به عن سائر الحضارات، وذلك في كتابه “من روائع حضارتنا” فقال رحمه الله:
خصائص حضارتنا
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
1- الوحدانية المطلقة
أنها قامت على أساس الوحدانية المطلقة في العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، هو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يقصد {إياك نعبد وإياك نستعين}، وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوى الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين…
كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو السر في إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الإلياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء، إن الإسلام الذي أعلن الحرب على الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ، كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين.
وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة، لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
وهذه الوحدة في العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا فهنالك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف العامة، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير، حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لاحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابع واحد.
2- إنسانية النزعة، عالمية الأفق
وثاني خصائص حضارتنا:أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى: {ياأيها الناس إنا خلقتناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات: ).
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة، إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب؛ فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتائج الفكر الإنساني السليم.
3- الأخلاق أولا ودائما:
وثالث خصائص حضارتنا: أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة أو أفراد.. ففي الحكم، وفي العلم، وفي التشريع وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة. روعيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوا ساميًا بعيدًا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث، ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارا تستحق الإعجاب، وتجعلها الوحيدة التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء، دون كل الحضارات الأخرى.
4- حضارة العلم
ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معًا، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد، وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ.
وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمُا على مبادئ الحق والعدالة، مرتكزًا إلى الدين والعقيدة دون أن يقيم الدين عائقًا ما دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلى أنحاء الدنيا قاطبة.
إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطي.
لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرًا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق، والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله).
هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس ولا لرجل دين ولا لشريف ولا لغني.
5- التسامح الديني العجيب
وآخر ما نذكره من خصائص حضارتنا: هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدين.
إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلها على حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق، وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، على أن يجور في الحكم، أو ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه…
إن رجلا مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت على الدين، وشادت قواعدها على مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية!..
هذا ما صنعته حضارتنا وسنجد له عشرات الأمثلة، وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد ولكنها كانت للأديان جميعًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يراجع كتاب “من روائع حضارتنا” لمصطفى السباعي