هكذا قالت صديقتي بصوت متهدج ، وابتسامة مغتصبة وعينين تجمعت على سطحهما قطرات دموع جاهدت لابتلاعها ، فكانت تزدري ريقها بصعوبة ،وتحاول الظهور بمظهر المتماسكة ،وهي ترد على مشاطرتي لها بعد طلاقها من زوج لم تمكث في بيته أكثر من عام !
لم أستفسر منها عن أسباب الطلاق ، فقد كنت أعلمها تقريبًا مسبقًا ، إذ تعددت خلال ذلك العام محاولاتنا وأزواجنا لإصلاح ذات بين صديقتي وزوجها ..
وللحق كانت هي أحرص على استمرار حياتها ، وكلما كان لفظ الطلاق يتردد في إحدى جلسات التحكيم والإصلاح كانت تهز رأسها ، وكأنها تطرد هاجسًا مخيفًا ، أو خاطرًا مزعجًا ، فقد كانت تريد أن تظل زوجة مهما كلفها ذلك من عناء نفسي ، وكبدها من تنازلات ، كانت تريد أن تنفض عن كاهلها اللقب البغيض ” عانس ” ، وتحمل لقب ” زوجة ” ؛ حتى لو كان زواجها على فوهة بركان نوحتى لو كان رجلها لا يرعى فيها إلا ولا ذمة !
ولا أحسبها إلا محقة ، فما قاسته في بيت أبيها من عنت ، واضطهاد ، وتحقير جعلها تتحين أية فرصة للخروج من كهف العنوسة ولو إلى كهف أضيق وأظلم .
كنت موضع شكواها.. وكثيرًا ما استودعتني مواقف تؤكد أن والديها وأشقاءها كانوا يعاملونها بفظاظة ، وغلظة ، ويعيرونها بعنوستها ، ويشعرونها بأنها ضيف ثقيل طال مكوثه عند من ضجروا منه ، ولم يجدوا بُدّاً من مواجهته بضجرهم وتضررهم .
بكاؤها المتشنج كان يمزق قلبي ، ولا أملك إلا الدعاء .. مقترنًا بالسعي لتزويج هذه الفتاة الطيبة .. المتدينة .. الخلوقة .. المتعلمة.
نعم فلم يكن يعيب صديقتي إن اعتبرنا خلق الله – والعياذ به – عيبًا سوى شكلها ، وإن كانت خفيفة الظل .. خفيضة الصوت .. خيرة إلى أبعد حد ، وكم رشحت لها .. ورشحت صديقاتنا الأخريات راغبين في الزواج يضاهونها سنًا وعلمًا ، وكان هؤلاء يجيئون لرؤيتها.. ويذهبون بلا عودة ، فتقول هي بأسى : لا تتعبي نفسك .. أعرف أنني لا أروق لأي رجل .. مهما كان دميمًا ، ثم تنخرط في بكاء شديد ، وتقول بلهجة متشنجة : ” الحمد لله على عطائه .. أنا لم أخلق نفسي .. فلماذا يعاقبونني على ما لم أرتكب ؟ ولماذا تلام الفتاة إن رفضت رجلاً لا يروق لها شكلا ؟ – ويلتمس العذر لأي شاب يرفض الاقتران بمثلي مهما تعددت عيوبه هو ؟!”.
كان حالها يؤرقني .. وكثيرًا ما تحدثت إلى أمها ، وشقيقتيها المتزوجتين بشأنها ، فكانت أمها تبدي أسفها وتقول لي : ” وماذا بيدي يا ابنتي .. فاض بي ! ” . وتقول شقيقتاها بلا مبالاة : ” وماذا تنتظرين منا وزوجانا يعيراننا بها ؟ ” . وتردف صغراهما : ” تصوري .. زوجي يقول عن ابنتنا التي تشبه خالتها : يا خوفي أن ترث شكلها .. وحظها أيضًا ” !
أسمعهن .. وأنصحهن .. ولكن دون أن يتوقف نزيف المأساة في قلب صديقتي ذات الأربعين عامًا ، التي ما إن تقدم لها أرمل في الخامسة والخمسين حتى وافقت دون تردد ، وكذلك فعلت أسرتها .. لم يتحروا .. ولم يسألوا عنه ، وتم الزواج لتظهر الحقيقة رويدًا .. الزوج بخيل جدًا .. لا يحافظ على الصلاة ، يعتبر الاهتمام بالنظافة الشخصية إسرافًا في استعمال الماء والصابون ، يسيء معاملة أسرتها ، ويلمح لهم في كل مناسبة بأنه ذو يد عليا عليهم ، فقد أنقذ ابنتهم من العنوسة !.
كل هذا وأكثر ، وهي راضية ، لا تشكو إلا حينما يفيض الكيل تشكو أملا في إصلاحه ، وليس رغبة في الانفصال عنه ، ويمر العام ليطلقها هو ؛ لأنه – على حد قوله – ” مل من كثرة شكواها ، ولا يجد مبررًا للإبقاء عليها ، فهي ليست “ست الحسن والجمال “.
فشلت محاولات صديقتي لإثنائه عن قراره ، فاضطرت للرضوخ ، وعادت إلى بيت أسرتها مرة أخرى تحمل لقبًا جديدًا ” مطلقة ” ، عادت محملة بآثار تجربة مريرة .. بغيضة تضيف إلى معاناتها السابقة تلالاً من العناء ، وتضيف إلى عمرها عامًا بعشرات الأعوام ، وتحفر على وجهها الحزين أخاديد تجعله يبدو كوجه عجوز في السبعين أو أكثر .
كان بوسع صديقتي أن تفعل الكثير لتتجاوز عنوستها ، وكم نصحتها ، واقترحت عليها ما يملأ فراغها ، وحاولت أن أبث فيها ثقة تستحقها – بالفعل – وألفت نظرها إلى ما تملكه من فهم حرمت منها جميلات كثيرات ، ولكنها كانت مسجونة داخل خندق الإحساس الحاد بأنها غير مرغوبة .
وكان من حولها يزيدون هذا الإحساس وطأة ؛ حتى فقدت القدرة على التفكير في غير هدف واحد : أن تصبح زوجة .. بأي مقابل ولأي رجل !
وتحقق هدفها لتصبح مرفوضة مرتين ، مرة لعنوستها وأخرى لطلاقها !
ترى كم بيننا من مرفوضات .. منبوذات بلا ذنب ؟ كم بيننا من مشروعات زوجات صالحات ، ولكنهن ضحايا لخلل قيمي .. وعسر اقتصادي .. وتفريط عقدي وتخبط سياسي ؟.
كم بيننا من حاملات للقب يرضين به ، ويحاولن التكيف معه ، ولكن الآخرين ، بل أقرب الأقربين لهن ، يدفعونهن بتصرفات تكاد أن تكون جرائم إنسانية إلى محاولة الهرب من اللقب .. الجحيم .. إلى جحيم أشد استعارًا.