يلوح بكلتا يديه ليودعنا… وداعاً لا رجعة بعده…
تمهل أيها الرائح… تمهل… تمهل…
أما للمودع حق في السؤال عن الوداع….
أما للمودع حق في المكوث والاستئناس….
عذراً ما أشق الوداع على المحبين….
صحبناك زمناً طويلاً… أبكيتنا وأضحكتنا… ارتمينا في أحضانك…
عانقنا أنفاسك…. كنت شاهداً لنا تارة… وعلينا تارات.
عذراً أهكذا يكون الفراق خلسة… أم أن الفراق حتماً مقضياً، علينا وعليك…
عذراً وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة كما يلفظ قرص الشمس أنفاسه عند المغيب…
عذراً أشح بوجهك تجاه هذه الجموع المتلهفة عن سبب الفراق والوداع…
أما تستحق هذه النفوس الظامئة نظرة مواساة وتعزية على هذا الفراق…
كلمة بل همسة مواساة تكفي…. خذ نفساً عميقاً أيها الرائح… واجبنا… لماذا هذا الفراق وما ذا نفعل بعد هذا الفراق…. أسئلة كثيرة تدور في مخيلة الكثير منا…تحتاج لماء زلال يغسل ما بها من تساؤلات…
صمتٌ يخيم على المكان…..صوت هبوب الرياح يكسر جمود الصمت….
أجاب بعد برهة…. وكأنها زمنٌ…- وما أقسى الانتظار على المحبين، وخاصة في لحظات الوداع والفراق -….
نعم والأسى يحرق الأسى…. ونار الفراق تقطع نياط قلبي مثلكم… نعم إنه فراق لا رجعة بعده…. فراق قضاه الله عليَ منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها… وتلك سنة من السنن التي لولاها لما سار سائرٌ في هذا الدنيا… وما انتقل منتقل بين جنباتها… وما كبر صغير… وما صح سقيم… وما مات معتل…. فالله يحكم لا معقب لحكمه.
هذا أنا وهذا قضاء الله علي…. بداية ثم أفول…. شروق ثم غروب… أنفاس ثم تنقضي… أعلم أن الفراق شديد علي وعليكم… ودعت أقواماً غيركم واعتصرهم الألم كما اعتصركم… ولكن أصغوا إلي بأسماعكم قليلاً… لأحدثكم حديث المسافر الذي لا يرجى لقاؤه… حديث يكون شاهداً لي وشاهداً عليكم يوم أن تقفون بين يدي علام الغيوب…
الحديث مني إليكم يطول ويطول… ولولا ضيق الوقت وانشغالي بحزم أمتعتي…
لأفضت وأفضيت بالكثير والكثير لكم…
ولكن مع هذه الأنفاس الأخيرة التي ألفظها في رحابكم… دعوني أهمس في آذانكم همسات اجعلوها نصب أعينكم في كل وقت وآن…
الهمسة الأولى: أهمية التغيير:
هكذا الأيام والأوقات تأتي سراعاً ثم تنقضي… والحال هي الحال… لا تغير إلى الأحسن ولا تبدل عما هو عليه المرء من التقصير أو الإهمال.
التغيير يحتاج إلى عناصر مهمة في بنائه حتى يكتمل… فمن الإحساس بأهمية التغيير إلى الوعي بمرحلية التغيير إلى الوصول بحتمية التغيير….. فالتفتيش والبحث في ثنايا أنفسنا يولد لدى الإنسان العاقل الحر…… رغبة عارمة في السعي إلى استدراك ما بقي من العمر في تكميل النقص الحاصل والتقصير الواضح من العبد تجاه الحقوق كلها التي يتوجب على الواحد منا أداءها سواء كانت حقا…. لله….. أو للنفس….. أو للمخلوقين…
فلننظر في بداية عامنا هذا وتوديع عامنا ذاك…. أو مع العام الجديد الذي أطل هلاله في الأفق، نراها فرصة لكي نحرك الفكر قليلا، في تداول مفهوم بدء كل عام؛ فهل هو شيء يستحق التهاني لبلوغ الإنسان مطلعه؟ أم هو مناسبة تدعو لإعمال الفكر والتدبر، في حكمة الباري _سبحانه_ من خلق الشمس والقمر، ومن وجود الليل والنهار ومما يعمله الإنسان في يومه وليلته، وماذا يجب عليه أن يأخذ من عبرة ببدء العام الجديد، فينظر في سجل أيامه، وماذا كان فيه من أعمال جادة ونافعة، فيحمد الله على ذلك، ومن يوطن نفسه على الزيادة من هذا العمل الرابح، حسب المقاييس الحسابية في حياة الناس،
أو ما يتراءى له من قصور في جانب نفسه ليعطيها منشطات تعينها على غذّ السير، ومسارعة الخطا، فيستدرك بذلك في قابل أيامه، ما توانت فيه نفسه الأمارة بالسوء في عامه المنصرم، حتى لا تضيع الفرصة، حينها لا ينفع الندم، كما أبان الله _سبحانه_ بقوله: “أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ” (الزمر: من الآية56).
هذا الأمر يستوجب أن يقف الإنسان في عامه الجديد مع نفسه محاسباً، ولأعماله في العام المنصرم مقوماً، فقد جاء في التوجيهات الكريمة والآثار، ما يدعو إلى أن يأخذ الإنسان من صحته لمرضه، ومن شبابه لهرمه، ومن غناه لفقره، أن يقف الإنسان في عامه الجديد مع نفسه محاسبا، ولأعماله في العام المنصرم مقوماً.
ومحاسبة النفس تقتضي الوقوف معها في الذكريات، واسترجاع التصرفات السابقة، خلال ساعة من وقته ليحاسبها قبل الحساب الأخروي؛ لأن هذه المراجعة تتيح فرصة لتحسين العمل، وتعويض بعض ما فات، والندم على ما بدر من سوء في العمل، لتدارك ذلك بالإكثار من الأعمال الصالحة النافعة، من دعاء واستغفار، وعبادة ظاهرة وباطنة؛ لأن الله يقول، وقوله الحق: “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ” (هود: من الآية114)، وهذا من فوائد التمعن في مصالح العام الجديد.
فصاحب الذنب الذي استمرأه في العام الماضي عليه أن يتوب إلى الله في عامه الجديد منه، ويعزم في هذه التوبة الصادقة على ألا يعود إليه، ومن تجنى على غيره بإساءة وتطاول باللسان، أو بمد اليد، أو الإضرار بالآخرين، أو ظلمهم أو أخذ شيء من أموالهم بغير حق، فإن توبته بالاستحلال منهم، ورد ما أخذه، أما إن كان اغتاب أحداً في مجمع من المجامع ليشينه فيه، فإن من التوبة من ذلك ذكره بخير ونفي ما ذكره عنه في نفس المجمع، وبذا نجد في العام الجديد فرصة لتجديد الصلة وتوثيقها مع إخوانه، ومعاتبة النفس على ما بدر منها نحو الآخرين، واستبدال ذلك بحاضر جديد مع تجدد العام، لعل النفس تجد في المسلك الجديد منهجاً مريحاً تتعوده، وعملاً مستطاباً تتلذذ به، ومن ثم يخرج عن ذلك قدوة في المجتمع بحسن التعامل، وصفاء النفوس.
وبهذه المحاسبة، وتنقية الصفحات، ثم مراجعة الأعمال لتحسينها، مع إطلالة العام الجديد، يكثر عنصر الخير في المجتمع، بالأعمال الحسنة، وبالحرص والتعاطف على إبدال السيئ بالحسن، ومع الحرص على هذا المنهج تتسع الدائرة عاماً بعد عام ليبرز المجتمع الإسلامي بسماته المميزة حيث انه مجتمع خير، والخير يتكاثر عندما يجد أرضا خصبة، وأبناء المجتمع عندما يهتمون بهذا الخير، ويتواصون به، تتأصل جذوره عندهم.
الهمسة الثانية: حتمية الانقضاء:
كتب الله الفناء على كل شيء، وما من بداية إلا ولها نهاية، وما من شباب إلا ويليه هرم، وما من صحة إلا ويليها سقم….هكذا… سنة من سنن الله التي أودعها الله في هذا الكون… لترسم في أذهاننا جميعا نحن بني البشر… أن هذه الحياة الدنيا دار سفر وينقضي والآخرة هي دار القرار..
ولذلك سأل نبي الله نوح _عليه السلام_ عن الدنيا وهو من هو في تعميره فيها، قال: (وجدتها كدار لها بابان دخلت مع أحدهما وخرجت من الآخر)… الله اكبر ألف سنة إلا خمسين عاماً.
نعم هذه هي الدنيا بقصرها، وغرورها، وطول أملها…. ولذلك ورد في الأثر (يكبر المرء وتكبر معه اثنتان حب الدنيا وطول الأمل).
كم ودعنا من قريب وبعيد….كم وارينا من الأحباب والأصحاب…أتى على الكل أمر لا مرد له فقضوا فكأن القوم ما كانوا….
في الحقيقة كل من أجال الفكر قليلاً في نهايتنا نحن بني البشر التي لابد وأن تنقضي… دعاه ذلك إلى المراجعة الدائمة والمحاسبة الدقيقة لكل ما يفعله الإنسان أو يقوله؛ لأنه يعلم علم اليقين أن بعد الموت حساباً دقيقاً يعقبه جنة أو نار… ورحم الله الفاروق عمر – رضي الله عنه – إذ يقول: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا إلى العرض على الله… “يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ” [الحاقة:18]).
يجب أن نعرض القلوب على كلام الله الذي يرسم لنا الحقيقة كاملة وهي أن الموت والانقضاء نهاية كل حي… وأن السعيد من ألهب قلبه وعقله ووجدانه بسياط المعرفة الدقيقة والتذكر الدائم لهذه الحقيقة التي سيكون لها اثر طيب على حياة المرء بعمومها إذا أحسن تفعيل العمل بها.
فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ عندما يأمرنا بزيارة المقابر…. ويأمرنا كذلك بالتذكر الدائم للموت… يريد من هذا الأمر أن يحفزنا إلى أمرين هامين:
الأول: أن تستقر في أذهاننا أن الموت نهايتنا المحتومة طال الزمان أو قصر.
قال _تعالى_: “فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ” (الأعراف: من الآية34).
الثاني: بعد ذلك الاستقرار الذهني للنهاية المحتومة… يحفزنا للعمل المثمر والناجع الذي يعود بأكبر الأثر على الفرد في دنياه وأخراه.
في الختام نسأل الله _جلت قدرته_ أن يجعل عامنا هذا عام خير وبركة علينا وعلى المسلمين، وأن يجعل عامنا المنصرم شاهداً لنا لا علينا، وأن يصلح أحوالنا جميعاً، وأن يرزقنا التوبة الصادقة التي تحفزنا على العمل والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض.