الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..وبعد
قال أحد الحكماء: «ثلاثة لا يُعرَفــون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعـــرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة»(عيون الأخبار، (3/95)).
وهذا صحيح؛ فالشدائد تكشف كوامن الأخلاق، وتسفر عن حقائق النفوس، ولهذا كانت العرب تقول: «السفر ميزان القوم»(السابق، (1/218))، لأنَّه يُسفر عن كثير من أخلاقهم وطبائعهم.
وهكذا فإن الإنسان لا يُعرف عند الاتفاق بل عند الاختلاف، حيث يُسفر الاختلاف عن مدى ورع الإنسان وحلمه، وتحريه والتزامه العدل والانصاف، ونحوها من الآداب التي يجتمع عليها الناس عند الاتفاق، ويتمايزون فيها عند الاختلاف والعمل؛ ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب»(أخرجه: أحمد 30/265) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/411)).
كما أنَّ الاختلاف يسفر أيضاً عن عقل الإنسان، وسعة أفقه، وعمق بصيرته، ورؤيته الشمولية للمسائل.
وبيان الحق ـ المختلف فيه ـ وتصحيح المنهج مطلبان يجب التزامهما؛ لكن الرحمة والإحسان خلقان لا ينبغي إغفالهما، وحسن الظن والتماس العذر والاستغفار للمخطئ طرق لا غنى عنها لمريد الحق والعدل والنصيحة والإصلاح.
وإنَّ من الأدواء الخفية أن الطبائع الجبليَّة كسرعة الغضب وحدَّة المزاج وصلابة الرأي تطغى عند الاختلاف، وتسيطر على مواقف الإنسان، وتريه الأمور بمنظار يختلف عن حجمها الصحيح، ثم يفسرها ـ من حيث يشعر أحياناً، أو من حيث لا يشعر أحياناً أخرى ـ بأنها من الغيرة على الحق والغضب لله تعالى؛ وحقيقة الحال أنه يسير وفق أخلاقه وطبائعه الكامنة المستترة، وينسى أنَّ الغيرة على الحق لا تتنافى مع الحلم والأناة التي يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الغضب لله لا يعني الجور وتجاوز الحدّ الشرعي في إنكار المنكر. ولهذا كان من الورع والتقى ترويض الطبائع الشخصية بطول المجاهدة لتستقيم مع النصوص الشرعية، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(البخاري ومسلم).
إنَّ مشروعية الرد على المجتهد المخطئ من أهل العلم والفضل لا تؤسس على الإطلاق لمشروعية الجور عليه وإيذائه وازدرائه، كما إن مشروعية الرد على المجتهد المخطئ لا تؤسس على الإطلاق لمشروعية تفريق الأمة وشرخ وحدتها. وتصحيح خطأ المخطئ لا يعني فضحه وإسقاطه، خاصة إذا تواترت أمانته، وعرفت عدالته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق، ويتبعون سنة الرسول، ويرحمون الخلق، ويعدلون فيهم، ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته، وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله، وهو المفرِّط في طلب الحق لتركه الواجب، والمعتدي المتبع لهواه بلا علم لفعله المحرم، فيذمون من ترك الواجب أو فعل المحرم، ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، لا سيما في مسائل تنازع فيها العلماء، وخفي العلم فيها على أكثر الناس»(مجموع الفتاوى، (27/238)).
كثيرون أولئك القادرون على ردِّ خطأ المخطئ، ولكن القادرين على بيان الحق برحمة وإشفاق، القادرين على إعانة المخطئ في العودة عن خطئه قلة قليلة. وروَّاد الأمَّة وأولو النهى فيها هم وحدهم القادرون على إيجاد البيئة العلمية المتزنة، والمناخ الفكري الجاد، الذي يقدر الحوار العلمي، ويحيي أدب الاختلاف، وهم القادرون على إعادة التوازن في الأمَّة بأناتهم وحلمهم، وخاصة عند ظهور فتنة الاختلاف وكثرة الرويبضات؛ فهم ملتزمون ببيان الحق بدليله، وتصحيح الخطأ، ولكنهم في الوقت نفسه حريصون على تماسك الصف وثبات أركانه، يعلمون أنَّ غفلتهم عن أحد هذين الركنين ستكون سبباً للتصدع وفساد ذات البين وذهاب الريح.
إنَّ فتنة الاختلاف والتدابر من أشد الفتن فتكاً في صفوف الصالحين، وبظهور الفتنة يكثر الجدل، والقيل والقال، ويصبح مطية كثير من الناس: زعموا. وعند بداية الفتنة يكون الشيطان عشيراً لبعض ذوي العجلة يؤزهم إلى تأجيجها، وإشعال لهيبها، وإنَّ من السوقة وذوي النفوس الضعيفة من إذا سمع هَيْعَةً إلى نزاع طار بها فرحاً، وراح يتتبع مظان الخلاف والتهارش، ولا تسمع منه إلا هدير المشاكسة والمجادلة، يدافع الناس بكتفيه ويباريهم بصوته وصخبه، وربما تدثر بدثار الغيرة والدفاع عن الحق كما تقدم..!!
وباشتداد فتنة الاختلاف يكثر التنازع، ويظهر التفرق، وتفتح أوراق الماضي، وتستدعى كوامن النفس وحظوظها، وتفسر الاجتهادات بمنظار التهمة والريبة، حتى ترتفع راية الفشل التي سمى الله في كتابه(قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46])، نسأل الله السلامة! وقد يصل بعضهم عند اختلافهم مع إخوانهم إلى ما وصل إليه ذلك الرجل الأزدي الذي رمى بنفسه في الماء يريد إنقاذ غريق استنجد به، فما زال يسبح حتى أصبح قريباً منه، ثم قال له: ممَّن الرجل؟ فقال له: من بني تميم! فقال الأزدي: امض راشداً.. فو الله ما تأخرت عنه ذراعاً حتى غرق! ووالله لو كانت معي لبنة لضربت بها رأسه!!(عيون الأخبار).
إنَّ روَّاد الأمة يقفون على أرض راسخة من البصيرة والورع لا يستفزهم الجدل، ولا تثيرهم أهواء الناس، بل تراهم يأخذون بحظ وافر من النصيحة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وليس كل أحد يستطيع أن يبصر مآلات الأمور، وليس كل مبصر لها قادر على درئها. وإنَّ الرجل المبارك ليرى المرجل يغلي بين الصفوف، فيعينه ربه ـ عز وجل ـ على امتصاص الفتنة وإطفاء لهيبها، بما آتاه الله من الهدى والحكمة والأفق الواسع؛ فهو يتجاوز ظواهر الأعراض وينفذ إلى بواطنها، وينطلق من سطحية الأسباب إلى جوهرها، وصدق الإمام ابن القيم: «نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك عواقب الأمور»(الفوائد، (ص 49))، ولئن كان بيان الحق واجباً والسكوت عن الخطأ منكراً، فإن الناصح المشفق من أهل العلم والتقى يستصحب بقية المصالح، ويدرأ ما أمكن من المفاسد، وينظر بعين المصلح الذي يرعى المقاصد الشرعية المأمور بها جميعها، فيقدم أولاها وأقربها لمراد الله ـ عزَّ وجل ـ ومرضاته.
ولهذا كان الأئمة يتركون بعض الرأي والعمل الاجتهادي رغبة في اجتماع الكلمة ودرءاً للفتنة، اهتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال في تفسير ذلك لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجَدْرَ في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»(البخاري ومسلم).
إن أبناء الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى التربية الإيمانية التي تهذب النفوس وتقودها إلى الاتزان البصير في اجتهاداتها، والاعتدال الراشد في مواقفها وردود أفعالها، وغياب هذه التربية سيجعلنا عرضة لمزيد من التمزق والتشتت، أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن…!!