كم من أعمال يقف لها الناس تقديراً، ويجعلون صاحبها رمزاً عظيماً من الرموز، ويمنحونه الألقاب والنياشين، ولكن حين نذهب ونبحث عن قيمة تلك الأعمال التي عظمها الناس في ميزانهم، ونقيسها بميزان الآخرة نرى تلك الأعمال لا قيمة لها!
كثيراً ما رأينا ونرى أفراداً أهانوا دينهم، واستخفّوا بساحة العقيدة، ولوثوا عقول الناس بنتاجهم الثقافي، أو أناساً أمضوا حياتهم في الغي والمنكرات، وكانت أعمالهم سبباً في إفساد أجيال وأعداد كبيرة من الناس، ولم يعلنوا توبة أو تراجعوا عما عملوه أو قالوه، لكنهم على الرغم من ذلك يُوصفون بأنهم عظماء ورواد! ويوضعون على قمة العظماء في المجتمع، ومكان القدوة الذي تُدعى الأجيال للسير على نهجهم، واقتفاء أثرهم.
وانظر مثلاً في كثير من المجتمعات حين يُشاد بمسيرة التقدم في بعض البلاد؛ من يوضع على رأس أعلام الصورة الحضارية المعاصرة للمجتمع! وسوف تجد كثيراً من أهل المجون والغناء، أو المصابين بلوثات العلمانية والإلحاد، أو الذين امتلأت آراؤهم وأفكارهم وأعمالهم بالطعن واللمز والغمز في الدين وشرائعه والمتمسكين به.
لقد أصاب مقياس العظمة والعظماء لدى كثير من الناس خلل كبير، وانحراف خطير، يحتاج إلى وقفة ومراجعة من العقلاء ليعيدوا للمجتمع المعايير الصحيحة والحقيقية التي تحسب على أساسها العظمة، ويستحق على أساسها الأفراد أن يكونوا رموزاً في مجتمعاتهم المسلمة أو عظماء يُسجل تاريخهم ليقتدى بهم.
يأتي معيار العقيدة على رأس المعايير المهمة في تقدير العظماء، ووضع الأفراد في منازل القدوة والرفعة في المجتمع المسلم، وإهمال هذا المعيار أو إزاحته تؤدي إلى اضطراب في هوية المجتمع وأصالته وخصائصه وعوامل الانتماء فيه، وخصوصاً في هذا العصر الذي صار لكثير من الأفكار والتيارات الضالة تأثير كبير بسبب وسائل الاتصال الحديثة، وأقرب مثال على خطورة إهمال هذا المعيار على المجتمع، هو رفع كثير من وسائل الإعلام لبعض الشيعة إلى منزلة التقديس والتعظيم، بل تجرأ بعض الناس على ميزان العقيدة وكسر أصوله من أجل أن يسوّغ لنفسه وضع بعض الشيعة في مكانة قد لا يعترفون بها لأحد من أهل السنة، وقد صار لهذا تأثير كبير في أوساط الناس البعيدين عن معرفة الفوراق العقدية بين أهل السنة وفرق الشيعة.
ومثل هذا الخلل الناتج عن إزاحة معيار العقيدة في تقدير العظماء يقع في الأوساط الثقافية والفنية، حين تجد في المجال الأدبي مثلاً من يتعرض لأصول العقيدة المجمع على قداستها وحرمتها، في قصيدة أو رواية، وعلى الرغم من ذلك ينال الجوائز التقديرية وجوائز الدولة والأوسمة من الدرجة الرفيعة.
ومعيار الحلال والحرام هو معيار آخر له دوره وأهميته في تقدير العظماء، أو تقدير أعمالهم، لما في ذلك من صيانة لأركان المجتمع المسلم الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها، وحماية لمثله العليا ومبادئه من الضياع. لقد تم إهمال هذا المعيار شيئاً فشيئاً على مدى سنوات طويلة، حتى انقلبت الأوضاع وصار اليوم يُنكر علناً على من يحاول جعله معياراً في وزن الأعمال والرجال وتقدير مكانتهم في المجتمع، بدعاوى شتى خادعة، كأن يقال مثلاً لا شأن للحرام والحلال بعملية الإبداع، أو يقال إن الفن ليس حراماً، ومن ثم صارت المؤسسات الرقابية الرسمية نفسها، كالأزهر في مصر مثلاً، توجه إليها أصابع الاتهام بالتخلف أو التطرف وأنها تقف حجر عثرة في طريق الإبداع الفكري والفني؛ كلما منعت رواية أو اعترضت عملاً فنياً أو ثقافياً فيه مخالفة للدين أو إساءة للإسلام، وتواجه بعض المؤسسات الرقابية أحياناً ضغطاً كبيراً لتمرير ما فيه مخالفة للدين أو السكوت عنه.
وهناك معيار الأخلاق والفضائل، وهو كذلك من أكثر المعايير إهمالاً واستبعاداً، وما أكثر ما ترى الآن مثلاً روايات أو أعمالاً فنية أدبية أو إعلامية يتفسخ أصحابها من الفضيلة من أجل المكاسب المادية والشهرة، وعلى الرغم من ذلك تجد مثل الأعمال هي التي تُرفع إلى مكانة مرموقة في المجتمع، وتنال الجوائز والتشجيع من بعض الناس!
ما كان ينبغي لنا نحن المسلمين أن نصل إلى الدرجة التي تكون فيها معايير العقيدة والحلال والحرام والفضائل والأخلاق في تمييز العظيم من الأعمال والأفراد محل نقاش وجدال؛ لأن الشرع يفرض علينا أن نجتنب المنكرات وأن ننكرها، فهل يعقل أن تكون الأعمال التي نعظمها هي وأصحابها مليئة بالمنكرات أو التعريض بأحكام الحلال والحرام وأصول الإيمان أو التفسخ من الأخلاق! كيف يعظم مسلم عملاً من الأعمال بدعوى أنه عمل فني أو أدبي أو إبداعي مع أن هذا العمل يقوم على الاستخفاف بالدين أو الاستهزاء بالحلال والحرام أو الدعوة إلى الانحلال وتعدي الحدود الشرعية!
إن مثل هؤلاء الأشخاص أو تلك الأعمال مهما قيل في وصفها أو تصنيفها وأنها أعمال فنية أو إبداعية أو غير ذلك؛ فليس هذا بمسوغ لكي نقبلها ونقدّرها ونضع أصحابها على قمة المجتمع لمجرد أنه أبدع أو قدم عملاً فنياً مع ما فيه من مخالفات صريحة واضحة للدين.
وحين نقول بأن عقيدة أهل السنة والحلال والحرام وثوابت الإسلام العامة ومبادئه وفضائله وأخلاقه يجب أن تكون هي أساس المعيار في تمييز الأعمال العظيمة، والمقياس الذي يعرف به العظماء والرموز والأبطال والقادة؛ فإن ذلك لا يعني إلغاء المعايير والمقاييس الفنية الخاصة بكل عمل أو الخصائص التي يلزم توفرها فيه، بل إن كثيراً من المعايير الفنية والخصائص قد تكون مطلوبة شرعاً، وما أكثر الأدلة والشواهد الشرعية التي تبين فضل التفكير والإبداع وتحث على إتقان العمل، كما قال _تعالى_: “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية : 13]، وقال _عليه الصلاة والسلام_: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” (السلسلة الصحيحة 1113)، وقد أشاد القرآن الكريم في عدة آيات بجهود ذي القرنين في بناء السد، وذكر على وجه التفصيل عمله الإبداعي الكبير الذي نفع به البشرية حتى ظهور علامات الساعة “قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98)”.
ولا ينبغي الخلط هنا بين ميزان الإسلام، وبين قضية الإبداع، فالإسلام لا يحرم الإبداع في أيٍّ من مجالات الحياة، مهما قام بهذا الإبداع مسلم أو كافر، إلا إذا كان هذا الإبداع يتقاطع مع حدود الشرع، وعلى سبيل المثال فإن إبداع أنواع جديدة من الخمر أو ما يذهب العقل وتصنيعها هو إبداع، ولكنه إبداع مذموم، لأنه انتهك الحدود، وكذلك الإبداع في مجال الفكر والأدب والثقافة وغير ذلك، هو إبداع محمود، وهو داخل في نطاق المباح، وقد يكون مستحباً ومطلوباً شرعاً، فإذا تخطى هذا الإبداع الحدود الشرعية صار إبداعاً مذموماً، لا يصح بحال من الأحوال أن يُمدح صاحبه أو يُقدّر، بل الواجب أن ننكر عليه وننصحه ونذم عمله حتى يرتدع هو وأمثاله، ونحفظ للدين حرمته في النفوس، ومكانته في المجتمع.
ولا ينبغي الخلط كذلك بين تقدير الإسلام للأعمال النافعة للبشرية التي لا تتعارض مع الدين وتقدير مكانة أصحابها حتى إن كانوا كافرين غير مسلمين، وبين حكم الإسلام فيهم بالكفر لأنهم غير مسلمين، فتقدير أعمال غير المسلمين ما دامت نافعة للبشرية خالية من المخالفات الشرعية فيه فوائد كثيرة، منها بيان أن الإسلام دين شامل لجميع مناحي الحياة، قابل لاستيعاب كل ما فيه نفع لبني الإنسان، ومنها استمالة قلوب غير المسلمين حين يرون تميز الإسلام بذلك، على خلاف ما يعتقدون في أديانهم كالنصرانية وغيرها، وأنه لا يقف حائلاً بين الإنسان والتقدم.
ومع ذلك التقدير لأعمال غير المسلمين النافعة وتقدير أصحابها، ترى أن الإسلام يحصر القدوة فيما هو نافع، ولا يلغي المعايير الشرعية في الوقت نفسه، فغير المسلم مهما عمل من الأعمال النافعة، ومهما أشدنا بعمله أو علمه النافع وانتفعنا به، فهذا لا يُسقط حكم الدين فيه بالكفر وأنه لا تنفعه أعماله تلك في الآخرة بغير الإيمان، حتى إن جاهد مع المسلمين وقاتل معهم أو ساعد المحتاجين وأغاث المنكوبين، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: “قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويُطعم المسكين؛ فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين”، قال القرطبي _رحمه الله تعالى_ في تفسير قوله _تعالى_: “قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ”[التوبة : 53]: (معنى الآية: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم، ثم بيّن جل وعز لم لا يقبل منهم فقال: “وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ …” [التوبة : 54], فكان في هذا أدل دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت براً كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يُثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يُطعم بها في الدنيا… رُوي عن أنس قال: “قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها” (انظر السلسلة الصحيحة 53)، وهذا نص. ثم قيل: هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يُطعم الكافر ويُعطى بحسناته في الدنيا، أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله: “عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد” ؟ وهذا هو الصحيح من القولين).
لا شك في أن من الأسباب الكبيرة وراء اندفاع بعض الناس في بعض الأوساط الثقافية أو العلمية والفنية إلى انتهاك المقدسات، هو إفلاسهم الإبداعي مع شدة رغبتهم وحرصهم على الشهرة السريعة، فانتهاك المقدسات ومعارضة مقتضيات الدين تثير ضجة تفتح لهم أبواب الشهرة على آخرها، بل رأى بعض هؤلاء المفلسين أن طريق الشهرة العالمية هو انتهاك حرمة الإسلام أمام بعض الجهات الغربية الناقمة على الإسلام لينال تقديرهم وأموالهم وحمايتهم.
والجدير ذكره هنا أن كل هؤلاء الذين ينبذون الدين أو يستهزئون به في أعمالهم، لا يقدّمون في أكثر أعمالهم فكراً حقيقياً نافعاً، له أثر صالح في تربية الأجيال على الأخلاق والفضائل، أو تطوير مجتمعات المسلمين اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، أو الارتقاء بها في مجالات الثقافة أو الفكر أو الأدب ..!
ينبغي أن يكون ميزان تقدير عظماء المجتمع قائماً على منهج الإسلام ومعاييره أولاً، وثانياً على المعايير الخاصة بالعمل نفسه من حيث خصائصه ومستلزماته، وليبدع من شاء ما يشاء ولكن ليس على حساب الدين، ليستحق بعد ذلك أن يرفعه المجتمع إلى منزلة سامية، وترقى أعماله إلى مكانة عظيمة لتستنير بها الأجيال.