هل للطبائع البشرية في الإفتاء والاستفتاء محلّ؟

ليس ألصق بالإنسان المُجرَّد من طباعه, ولا أقوى من تأثيرها عليه, وعلى أحكامه؛ إذا حُيِّد العقل, أو أصبح تابعا لها؛ يعمل لصالحها, ويصدِّق مطالبها.

Share your love

د أسامة عثمان

ليس ألصق بالإنسان المُجرَّد من طباعه, ولا أقوى من تأثيرها عليه, وعلى أحكامه؛ إذا حُيِّد العقل, أو أصبح تابعا لها؛ يعمل لصالحها, ويصدِّق مطالبها.
هذا بصفة عامة, وأما في المقياس الشرعي؛ فإن الانقياد لله, وأحكامه التي دل عليها الوحي أمرٌ في صميم الدين, وفي أساس عقيدة التوحيد, وهو مُقدَّم على الطبائع, ومتحكم بها, أو مُهذِّبٌ لها.

 

والمرء لا يستطيع أن يحقق معنى العبودية إلا بالاتباع السليم لأوامر الله, واجتناب نواهيه، ولا يستطيع معرفة مأمورات الشريعة ومنهياتها, دون النظر في الأدلة الشرعية, والكشف عن أحكامها. وحاجة المُكلَّفين إلى الأدلة والأَمارات الشرعية من حاجتهم إلى الرسل، وقد قال الله تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء: 165] وقال تعالى:) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ([إبراهيم: 4]. وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً) [طه: 134]

 

والناس بحسب أخذ الحكم الشرعي قسمان, مجتهد, ومقلِّد, أو هما مُفْتٍ, يستنبط الحكم الشرعي, ومستفتٍ يَسأل عنه, ويقلد فيه.

 

وكلا الفريقين؛ المجتهد والمقلد، معنيٌّ بتحرِّي حكم الله في المسائل, والمستجدات؛ صافيا مما سواه. ولما كان الحكم الشرعي هو المَطْلب والهدف؛ فإن نطاق الجهد البشري لا يعدو التوصلَ إليه، دون تدخل, أو ترجيح، إلا بناء على مرجِّحات شرعية, دلَّتْ عليها النصوصُ, أو أرشدت إليها, أو جاءت بها العللُ الشرعية, أو أفادتها المقاصدُ الشرعية المعتبرة.

 

الاجتهاد فوق الطبائع البشرية:

يقوم عملُ المجتهد على تحرِّي الحكم الشرعي الراجح, أو استنباط مطلوب الشارع, ومراده من الأدلة التفصيلية, أو من العلة الشرعية المعتبرة, أو من مقاصد الشريعة, عند الفقهاء الذين أخذوا بها, واعتمدوا عليها؛ بوصفها مدلولات عامة للنصوص الشرعية, أو ثمرة العلة العامة للشريعة، وَفْقا لقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107] فقد رأَوْا أن مدار الشريعة على جلب المصالح, ودرء المفاسد، لكن مَنْ يحدد تلك المصالح؟ أو من يُعيِّنُها؟ هل هو العقل, والهوى, أم النقل؟

 

من الثابت أن الشرع هو الذي يُحسِّن ويُقبِّح, وهو الذي يحكم على أفعال المكلفين, وأنَّ “الذي يقرر المصالح هو الشارع، فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف; إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات.” [الموافقات: الشاطبي]

 

وقد اتفق العلماء على أن الشريعة جاءت لتخرج المُكلَّفين من داعية شهواتهم, وأن القول في الشريعة بالتشهي, مرفوض, كما أن الترجيح دون مرجِّح شرعي منكرٌ, قولا واحدا.

 

قد يتوهم بعض الناس أن العلماء حين يتحدثون عن آرائهم في المسائل والوقائع, أو في تفسير آية, أو شرح معنى حديث, في تلك التي تحتمل الاجتهاد والنظر من الظنيات, أنهم يقصدون محض آرائهم الشخصية, أو ترجيحاتهم الذاتية, والحقُّ أن ذلك وهمٌ ناتج عن سوء فهم لمعنى الاجتهاد, ووظيفة المجتهد. ” وقد روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة: (أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله، وإن كان خطأ فمني, ومن الشيطان” [الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام]. فنسبة الرأي إلى المجتهد ليست نسبةَ إيجاد, وإنما نسبة تَوَصُّلٍ واهتداء إلى الرأي الذي يغلب على ظنه أنه حكم الله في المسألة؛ ولعل المقصودَ من استعمال كلمة “رأيي” التأكيدُ على أن هذا الحكم المستنبط هو ظنيٌّ, ولا يصح الادعاء بأنه حكم الله, قطعا. وإن كان هو حكم الله في حق مَنْ توصل إليه.

 

ولا يخفى أن للمجتهد والمفتي مكانة تعلو على مكانة المقلد والمستفتي، ليست من جهة الأجر والفضل الذي يكسبه إياه علمُه فقط, ولكن بحكم المَهمة التي أنيطت به, والعمل الذي يتلبس به؛ فهو الذي يستنبط الحكم, وهو الذي يُتَّبع, ويُقلََّد؛ فليس غريبا أن يُقدَّم في الاهتمام, وأن يولى عملُه العناية التي يستحق؛ حتى يكون اجتهادُه الأقرب إلى مراد الله, سبحانه, ومقصود الشارع الحكيم.

 

ولما كان المجتهد بشرا, لا يفارق طبيعته البشرية, حتى في أثناء اجتهاده في النصوص, ونظره فيها, فإنه مأمور بالترفُّع عما تميل إليه نفسُه المجردة, ولما كان من المجتهدين- بوصفهم بشرا- مَنْ يغلب على طبعه التشدد والحدة, ومنهم مَنْ هو ميَّال إلى التهاون والتساهل؛ فإن الضوابط الشرعية هي التي تتولى تخليصهم من تلك النوازع, قدر الوسع والطاقة, وقد فصَّل العلماء القول في المرجحات, وكيفية الموازنة بينها, وهي تحقق ذلك، (أيْ: تخلصهم من مؤثراتهم الذاتية), مع المجتهدين جميعا, مهما اختلفت طرائقهم في الاجتهاد, أو قواعدهم في الفُتْيا.

 

المجتهد, إذن, ليس منشئا للحكم, ولو بأدنى الدرجات, وإنما هو مستنبط له, وحسب, وهو مُؤْتَمن على هذا العمل, أمانة عظيمة, وقد أطلق عليه الإمام ابن القيم صفة المُوقِّع عن رب العالمين في كتابه: “إعلام الموقعين عن رب العالمين” وقد أورد فيه كلاما مفيدا يتصل بما نحن فيه؛ إذ قال في معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1]
“أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وروى العوفي عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.

 

والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل. وقال تعالى): يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2] فإذا كان رفعُ أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم”. [ابن القيم: إعلام الموقعين]

 

هل يُحكِّمُ المقلدُ طبعَه في الاستفتاء؟

وأما المقلد فهو كذلك لا يحل له تخيُّرَ الأحكام, بحسب ما يلائم هواه, أو يتفق وطباعَه, وإذا كان العلماء قد اختلفوا في كيفية اختيار المستفتي لمن يستفتيه, في حال تعددهم؛ على آراء منها ما أوجب تحري الأعلم والأَدْين والأعدل, ومنهم من أجاز السؤال دون تخير، على أن يكون المُستَفتى, بالطبع, ممن يؤخذ عنه، إلا أنهم لم يجيزوا أن يتخير المقلدُ من المفتين من يوافق هواه, أو يتفق وطباعَه, ومزاجه الشخصي. قال الآمدي:” إذا حدثت للعامي حادثة، وأراد الاستفتاء عن حكمها، فإما أن يكون في البلد مفت واحد أو أكثر؛ فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله. وإن كان الثاني، فقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال: لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي, وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مصيرا منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل، ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها، فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكان المصير إليه أولى.

 

وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا، وهو المختار” [الأمدي: الإحكام في أصول الأحكام]

 

والاتفاق واقع على تحريم تتبُّع رخص العلماء؛ إذ في ذلك بحث عما يوافق طباعه, أو ما يراه الأنفع له، بانتقائية ومزاجية متعسِّفة، والأدهى من هذا, أن يتمادى المستفتي في هذا النهج… يستفتي أحد العلماء؛ فيفتيه، ثم لا تروق له فتواه؛ فينتقل إلى آخر, وربما آخر؛ حتى يجد من يفتيه بما يريد, وأكثر ما يظهر هذا في المعاملات والتصرفات, وفي وقت المنازعات والخصومات, وقد يتعداه إلى العبادات؛ طلبا للتخفف, وموافقة للمعتاد, أو الهوى؛ فأي استفتاء هذا؟! وأية عبادة لله هذه؟!

 

قال الشاطبي في الموافقات:” ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين; فوردت كذلك على المقلد; فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة; فيتبع هواه، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: ” أصحابي كالنجوم ” وقد مر الجواب عنه، وإن صح; فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره؛ فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مُفتِيَيْن; فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث; لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه; فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى، وقد مر ما فيه; فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها.

 

وأيضا; فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا; لجاز للحاكم، وهو باطل بالإجماع.” [الشاطبي: الموافقات]

 

ثم يعزز هذا القول بما يدل عليه الكتاب العزيز من ضرورة الرد إلى الله ورسوله؛ ما يعني تنحية كل ما سواهما جانبا, يقول:” وأيضا; فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59] وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان; فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة; فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [النساء: 60] وبهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله: ” أصحابي كالنجوم “. وأيضا; فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل. ” [الشاطبي: الموافقات]

 

وقد أطلت الاقتباس للفائدة المرجوة, وتأكيدا لهذا التوجيه الذي قد يتهاون ناس فيه؛ حين لا يتبرؤون من أهوائهم وطبائع نفوسهم لدى تحريهم الحكم الشرعي, وطلبهم للفتيا.

 

وتنقية الحكم الشرعي مما سواه أمرٌ في صلب العبادة الصحيحة, والأخذ به من أوضح الدلائل على لزوم التقوى, والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

Source: www.almoslim.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!