ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بول تريشلر – (أوبن ديمكراسي) 13/6/2016
عندما أعلن أن الموت هو العدو النهائي في الحياة، أشار المنظّر التطوري، ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould إلى أن المعركة لم تنته بعد: الأعداء تمكن محاربتهم، والانتصارات الجزئية ممكنة. والخيال هو تعويضنا عن فترة حياة تتسم بأنها محدودة، لكنه أيضاً وسيلة لموازنة ذلك الخلل في التطور.
لكن الموت ليس هو العدو الوحيد. هناك أيضًا آلة تسمى الرأسمالية، والتي تبني المستقبل وتعيقه على حد سواء. فبينما تقوم الرأسمالية بتجميع الموارد لمراكمة القيمة الاقتصادية، تتكشف إمكانية الانعتاق عندما يتعلق الأمر بالتقدم التقني -بما في ذلك تطوير العقاقير والعلاجات الجديدة التي تزيد فترات حياتنا بشكل كبير. ولكن، كذلك تفعل التكلفة البشرية المترتبة على ضروراتها الاقتصادية: التكاليف التي تمتد إلى عمر متقدم من العزلة والفقر بالنسبة للكثير من الناس.
قد تعترف الرأسمالية بوجود اللامساواة، وإنما ليس إلى درجة الاعتراف بازدهار هذا النظام على اللامساواة، ولا بالمسؤولية التي ينبغي أن يتحملها عن توفير الرعاية لأولئك الذين يصبحون أكثر عرضة لضعف الصحة، والتعليم المتدني، والفقر والجريمة -وهي حقائق تجري نسبتها –زيفاً- إلى عيوب شخصية بدلاً من من نسبتها إلى العيوب الهيكلية. ويشكل عدم التوافق بين الوعد بحياة مطولة وواقع تدهور مستويات المعيشة في سن الشيخوخة معضلة مركزية للرأسمالية المعاصرة.
في مواجهة هذه المعضلات، اقترح الفلاسفة الاجتماعيون مثل أندريه غورز André Gorz سلسلة من البدائل الواضحة والعملية والديمقراطية للرأسمالية. وصاغ غورز اتجاهاً بديلًا أخضر- أحمر للسياسة اليسارية؛ نموذجاً لإيكولوجيا سياسية تتحدى منطق الرأسمالية، وأخلاقياتها، وفعاليتها، إلى جانب جنوحها المستمر نحو الربح. وقد تسببت هذه الانتقادات في جعل صوته مكتوماً تقريباً في وسائل الإعلام الرئيسية (أو من أشار إليهم غورز في كتابه “مسارات إلى الجنة” باسم “تجار النسيان”). وكان غورز حريصاً على التأكيد على الخراب النفسي الناشئ عن التدهور السريع وواسع النطاق للمهارات، حيث سعى الرأسماليون على نحو متزايد إلى إيجاد طرق لتحويل الوظائف الثابتة إلى وظائف مؤقتة أو بعقود؛ ومكننة العمل؛ والسعي إلى تحقيق الحد الأقصى من الأرباح.
مدفوعاً بما لا يقل عن فكرة “الإنتاج المفيد اجتماعيًا”، اقترح غورز مجموعة من الطرق لإعادة تنشيط هذه المهارات، وتقليل العمل، وزيادة وقت فراغ الناس. باختصار، حيث أنتجت الرأسمالية تغريب الفرد، اقترح غورز توسيع مجال النشاط البشري المستقل من أجل زيادة مساحة تحقيق الذات. ومن بين مقترحاته العملية العديدة (التي شملت إقرار دخل أساسي للجميع كتدبير مؤقت إلى أن يتم التخلص من النقود)، اقترح خططًا لتطوير مجتمعات منظمة ديمقراطياً، والتي يكون من شأنها أن تحدد -من بين أمور أخرى- قيم الإنتاج والتخطيط وتوفير الاحتياجات المحلية؛ واستكشاف إمكانيات التحرر من الأشكال الهرمية لتنظيم العمل؛ وتطبيق ممارسات ما-بعد-إنتاجية.
في كتاب آخر بعنوان “وداعاً للطبقة العاملة”، وصف غورز الوجود في ظل الرأسمالية بأنه “موت اجتماعي”، واعتقد أن العيش لفترة أطول سوف يعني القليل إذا لم نكن نعيش حياة جيدة. وهي ملاحظة تصبح أكثر صلة باطراد في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والتي تستجيب لها هذه المجتمعات بالعديد من الطرق. في اليابان على سبيل المثال، ارتفع عدد الذين بلغوا المائة عامًا من العمر إلى أكثر من 50.000 في حين انخفض إجمالي عدد السكان بمقدار مليون نسمة، وهو يواصل الانخفاض مع انخفاض عدد الأشخاص الذين يختارون إنجاب أطفال.
في مواجهة احتمالات أن يكون 35 في المائة على الأقل من سكان البلد قد تجاوزوا سن 65 عامًا قبل نهاية هذا القرن، والتناقص السريع للسكان، والحاجة إلى استخدام المزيد من العمالة المهاجرة، أعربت الحكومة اليابانية عن قلقها إزاء عجزها عن سداد ديون البلد المتصاعدة. وبما يعكس جزئياً مصادر الاغتراب في هذا المجتمع الذي يتسم بالتنافس الشديد وغير الآمن باطراد، قاموا بتعيين قيصر يحمل لقب “وزير لـ100 مليون شخص نشط”. ومن المفترض أن هذا يعني هذا أناساً نشطين جنسيًا أيضًا.
وكما لو أن الأمور لم تكن صعبة بما فيه الكفاية مسبقاً بالنسبة للحكومة، أدت حالة نفسية غريبة تدعى”هيكيكوموري” Hikikomori إلى تقليص القوى العاملة المستقبلية في اليابان بمقدار مليون شخص آخر -والعدد في تصاعد. ويبدو أن حالة “هيكيكوموري” التي تتميز بالانسحاب الاجتماعي وضعف الإحساس بالذات، هي استجابة الكثير من الشباب الياباني للضغط الحاد الذي سببته آفاق أقل من مُرضية للرأسمالية الحديثة وعجزها عن توفير وجود ذي معنى. وبـ”ذي معنى” يشملون التمتع بممارسة التمارين الرياضية في الهواء الطلق، حيث يظل الكثيرون في منازلهم لفترات تتراوح بين ستة أشهر وأعوام عدة ولا يغامرون بالخروج مطلقاً.
في ظل ظروف كهذه، قد لا تعود هبة الشباب بالغة الجاذبية، أو ربما يخشى الشباب ببساطة حقيقة البديل: الشيخوخة وفقدان السيطرة؛ الدخول في عالم المنسيين. وقد أدت التغذية الأفضل والتحسينات البيئية والتقدم الطبي إلى زيادة كبيرة في فرص معظم الناس في اليابان وأماكن أخرى في الغرب لفي عيش حياة أطول بكثير، لكنّ تقدماً مماثلاً لم يتحقق في نوعية حياتهم على المدى الطويل: آفاق طول العمر لا تتوافق مع احتمالات سعادة الناس في المستقبل. وكما قالت الكاتبة الإنجليزية الراحلة جيني ديسكي Jenny Diski: “عجائز، وحيدون، لا يريدهم أحد، غير مرئيين… نراهم مرارًا في الأخبار التلفزيونية، يموتون من العزلة والإهمال، حتى في الصالة النهاية المزدحمة في دار رعاية… لا أستطيع التفكير في أي شيء عن واقع الشيخوخة، والذي يُحسِّن حياة الفرد”.
وهكذا، قد يكون الخوف من الشيخوخة أكبر من الخوف من الموت، ولسبب وجيه. فالتدهور الجسدي يترافق بشكل متزايد مع فقدان تلك المكونات التي تشكل حياة ذات معنى: العائلة؛ الأصدقاء؛ الشبكات الاجتماعية الخبرات؛ الإنجازات؛ والاعتراف والمعرفة. والوعي نفسه يتشكل من خلال المشاركة الاجتماعية: لا يمكن فصل مفهوم الذات، مفهوم هويتنا، عن العمل البشري والتفاعل. ولذلك، ليس من المستغرب أن يدفع كون المرء كبير السن عدداً كبيراً من الناس إلى استجابات يائسة مثل العمل القهري، وممارسة التمارين المفرطة، وأنظمة الحمية، وبدع “فكر بأنك أصغر سناً”، وجراحة التجميل. وبالمثل، فإنه قد يغريهم بالعزلة في مجالاتهم الخاصة من خلال التلفاز، والمخدرات، والكحول والاكتئاب.
في هذه الظروف، قد يقدم الانتحار نفسه كخيار معقول، وقد ازدادت معدلاته بشكل كبير في الأعوام الأخيرة -بنسبة تقارب 15 في المائة بين الذين تتجاوز أعمارهم خمسين عامًا في بريطانيا، على سبيل المثال، ويقف عند أعلى مستوى في الولايات المتحدة منذ ثلاثين عامًا. وتجسد الرأسمالية معنى “الاستقلال” في لغة أصولية السوق، مؤكدة على أن الشكل المثالي لسلوك الفرد هو أن يكون قادراً على التنافس، مستقلاً، ممتلكاً، معتمداً على الذات، مكتفياً ذاتياً، ومهتماً بالمصلحة الذاتية –أو جشعاً، استيلائياً وفظيعاً إذا أردت.
في هذا التصور، يكون المجتمع مهملاً بشكل أو بآخر، وتتساوى الاعتمادية مع المرض أو عدم كفاية. إنها هذه الخلفية هي التي يجب رؤية زيادات معدلات الانتحار المتعلقة بالعمر عليها. وكما تشير لين سيجال Lynne Segal، فإن حوالي 20 في المائة من كبار السن في المملكة المتحدة يعيشون في فقر، ومأساتهم تزداد حدة بسبب الأمراض المرتبطة بالشيخوخة، وباعتماد كبار السن المتزايد على الموارد المتناقصة للرعاية النوعية للمسنين في عصر يحكمه التقشف وخفض الميزانية.
من ناحية أخرى، قد يكون احتمال الموت تأكيداً لاستمرارية الحياة أيضاً. وفقاً لـ”نظرية إدارة الرعب”، وهي نهج انبثق من علم النفس الاجتماعي الوجودي –فإن تأملك في زوالك يحسِّن الصحة النفسية عن طريق جلب إحساس بالغاية إلى حياة المرء وتقليل الخوف من الموت. ويفعل ذلك عن طريق تشجيع الناس على زيادة استثماراتهم في الهياكل الاجتماعية والثقافية -الموارد ذاتها التي توفر المعنى والكرامة والهوية لحيواتنا.
تعني “نظرية إدارة الرعب” أنه ليس هناك عقل من دون لغة، وليست هناك لغة من دون تفاعل اجتماعي. فبعد كل شيء، الناس كائنات اجتماعية، وتصوراتهم عن أنفسهم تتطور من خلال الاعتمادية المتبادلة. ولكن، إذا كانت الهياكل التي تشكل أساس التواصل البشري في تناقص، فما الذي يعنيه هذا للهوية الشخصية والاكتفاء؟
يأتي الموت إلينا جميعا، كما يقال دائماً، سواء أكان افتراضياً أو بحادث تطور، على الرغم من أن الناس سيظلون يحاولون، بلا شك، التغلب على آلة الحصاد القاتمة هذه بمجموعة من الطرق -أو يموتون في العملية. ولكن، ما الغاية من توجيه طاقاتنا إلى عيش حياة أطول إذا كان ذلك فقط لمواجهة أعوام مطولة من العزلة -ربما في حالة فقر أو في ظروف من الإهمال؟
عندما تم اقتراحها في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، همشت وسائل الإعلام الرئيسية أفكار غورز، وقوبلت بدرجات متفاوتة من السخرية وازدراء من قادة الأعمال، واليسار، والأكاديميين وقادة النقابات. وتم في كثير من الأحيان استخدام مصطلح “يوتوبيا”، على سبيل المثال، بطريقة مزدرية تجاه غورز وعمله، لكنه اعتنق أفكاره بهدوء وسرور. وعلى النقيض من ذلك، أصبحت حججه شائعة اليوم في الخطاب السياسي، خاصة فيما يتعلق بالكوارث الإيكولوجية، والليبرالية الجديدة، والتقشف والعولمة. ويبدو أن هذا الصوت في البرية كان متقدماً على زمنه.
باتباع مُثُل غورز اليوتوبية، وإنما العملية للغاية، ينبغي أن تكون الاستجابة المناسبة للشيخوخة هي العمل على استراتيجيات تحرِّر الوقت للمساعي الإبداعية، وبناء شبكات مجتمعية متعارضة مع الربح ومفضية إلى الرعاية المشتركة، وتنمية الموارد من أجل تجديد وتحسين نوعية الحياة للجميع؛ بعبارات أخرى، لضمان سيادة نظام اجتماعي يذهب إلى ما وراء الرأسمالية، ويسمح للبشر بالازدهار مهما كانوا كبارا أو صغارا.

*محاضر في علم النفس في ستوفولك.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Is there life after capitalism?