هل هو تنصُّتٌ على هواتف ماكرون ومحمد السادس.. أم صراعٌ جيوستراتيجي على ثروات المنطقة؟

عبدالسلام بنعيسي

حسب التقارير الصحافية التي تناولت قضية بيغاسوس، فإن الهاتف المحمول للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون كان واحدا من الهواتف المستهدفة بالمراقبة والتنصت، من طرف أجهزة المخابرات المغربية، ووفقا لنفس التقارير، فإن الهاتف المحمول للعاهل المغربي محمد السادس، كان أيضا يخضع للمراقبة وللتنصت من طرف ذات المخابرات المغربية..

وكما بات معلوما فإن عمليّة التّجسّس بواسطة برنامج بيغاسوس الذي أنتجته شركة إسرائيلية، تتأتى عن طريق زرع فيروسات في الهواتف المُستَهدفة تتحكّم عن بعدٍ في كاميراتها وأجهزة تسجيلها لكي تتمكن من تَرصُد كُلّ مكالمات وتحرّكات أصحابها حتى في الغُرَف المُغلَقة، وربّما في غُرَف النّوم أيضًا..

الحكومة المغربية نفت نفيا قاطعا كون المغرب متورطا في هذه الفضيحة، واختارت اللجوء إلى القضاء الفرنسي لإنصافها من هذه التهمة الموجهة إليها والتي تعتبرها ظالمة وباطلة، ولا أحد من الجمهور يمكنه أن يقول القول الفصل في الموضوع، فالمشكل تقني، ومحاط بالكثير من الأسرار والألغاز، ولا يملك صاحب هذا المقال القدرة على نفي التهمة، ولا على إثباتها، ونفيُ التهمة أو إثباتها من جانبه، لا يقدم ولا يؤخر. القضاء الفرنسي هو الذي سيحسم في هذا الملف، وسيقول فيه كلمة الفصل..

وفي انتظار ذلك، ليس بأيدينا سوى طرح بعض الأسئلة المرتبطة بهذا الموضوع، تشغيلا للعقل، ورفضا للتسليم بما تريد الميديا الغربية العملاقة فرضه على الجمهور، مع ضرورة التنبيه إلى أن المقصود من المقال، ليس مراقبة الأجهزة الأمنية المغربية لهواتف بعض الصحافيين والنشطاء السياسيين المغاربة، فهذا موضوع مختلف، المقصود هو مناقشة حصرا فرضية التنصت على ماكرون ومحمد السادس، ببرنامج بيغاسوس، من جانب المخابرات المغربية..

 الكثيرون من الذين يجهدون أنفسهم لتأكيد تهمة تنصت المخابرات المغربية على ماكرون، لا يتوانون في تصنيف المغرب ضمن الدول التابعة لفرنسا، ومنهم من يصفه، تجاوزا، بأنه محمية فرنسية، وأن جميع قراراته خاضعة للإليزيه، ولا يعلن عنها إلا بعد تلقيها من باريس، فكيف يمكن للمغرب، وهو بهذه المواصفات، أن يتجسس على رئيس الدولة الفرنسية التي تسيطر على قراراته؟ أليس هناك خلل واعوجاج ما في هذا المنطق؟

من المؤكد أن العلاقات المغربية الفرنسية عميقة ومتجذرة، وللبلدين مصالح مشتركة في كافة المجالات، الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وتوجد جالية مغربية كبيرة في فرنسا، كما توجد جالية كبيرة أيضا فرنسية تعيش في المغرب، وتستقر فيه بشكل نهائي، ولا يخفى أن التشاور قائم بين العاصمتين، باريس والرباط، حول مختلف القضايا، وأن التنسيق في المواقف يجري بينهما بانتظام، منذ حصول المغرب على استقلاله من فرنسا إلى اليوم..

 وغير خافٍ أن فرنسا تدعم المغرب بقوة في قضيته المركزية، المتعلقة بأقاليمه الصحراوية، ومعركته في الحفاظ عليها، تدعمه بالمال، وبالسلاح، وبالخبرات العسكرية، والمعلومات الاستخبارية، وبالمواقف في مجلس الأمن، وفي جميع المنتديات القارية والدولية، في ظل هذه المعطيات، كيف للمغرب أن يقوم بنصب فيروسات للتنصت على الهاتف المحمول للرئيس الفرنسي؟؟ بماذا يجديه ذلك؟ أليس في الأمر ضربٌ للمصالح المغربية الاستراتيجية القائمة في علاقاته بفرنسا، وتدميرٌ لها؟؟؟

يكون الهاجس الرئيسي الذي يكمن خلف كلَّ تصرُّفٍ يصدر عن أي دولة في المجال الاستخباراتي، تجاه دولة أخرى، هو البحث عن معطيات يتعذر الوصول إليها، بالطرق العادية، على أن يتمَّ الوصول لتلك المعطيات، دون إحداث ضررٍ ما بالدولة المعنية بالحصول عليها، وإذا كانت العلاقات المغربية الفرنسية جد متقدمة في كافة المجالات، وأن التنسيق جار بينهم حول مختلف الملفات، كما أسلفنا، فلماذا سيبادر المغرب إلى التنصت على الهاتف المحمول للرئيس الفرنسي؟ هل تبث أن باريس تخفي أشياء عن المغرب تخصه، لكي يضطر للمخاطرة بمصالحه معها للتجسس على هاتف رئيسها، للاطلاع عليها؟

ليس لدى الرباط ما تخشاه من باريس، فوجهات نظرهما متطابقة في مجمل الملفات، كما أن المخابرات المغربية التي تتبادل المعلومات وتتعاون مع نظيرتها الفرنسية، تمتلك ما يكفي من الخبرة والنضج، لتدرك أن لا أسرار في هذا العالم، فكل سرٍّ من أسراره، مهما خاله أصحابه يخفى عن العالم، فإنه يُعلمِ. والتنصت على رئيس فرنسا، مهما كان سريا، للحظة زمنية محددة، فإنه سيصبح، في وقت من الأوقات، خبرا مشاعا بين الناس، مع ما سينجم عن ذلك من عواقب وخيمة ضد المغرب، وضد مخابراته أساسا.

يصعب تصور أن الرباط ستُقدِم على التنصت على هاتف الرئيس الفرنسي ببرنامج تجسسي إسرائيلي، إذا قبلت الرباط بذلك، فهذا يعني أنها سلَّمت رقبتها للكيان الصهيوني، لأنه سيظل يهددها بفضحها حول هذا التنصت، في كل لحظة وحين، وسيصبح المغرب موضوع ابتزاز إسرائيلي لا حدود له..

إذا كان المغرب يتجسس ببرنامج بيغاسوس على الرئيس الفرنسي مانويل ما كرون، فهذا يعني أن الأمر كان يتمُّ بمباركة إسرائيلية وبموافقتها، لأن البرنامج من إنتاج شركة إسرائيلية وفي ملكيتها، فكيف ستسمح الدولة العبرية للمغرب بالتنصت على الهاتف المحمول للرئيس الفرنسي، ببرنامجها السبراني، وتتواطأ معه حول هذا الأمر؟؟ ألا تقامر إسرائيل، بفعلتها المفترضة هذه، بعلاقاتها الاقتصادية، والتجارية، والدبلوماسية، مع فرنسا؟ وهل المغرب أهمُّ وأكثرُ نفعا للكيان الصهيوني من الدولة الفرنسية؟

مهما تظاهر بعض قادة الكيان الصهيوني بإبداء محبتهم الزائفة للمغرب والمغاربة، ومهما سعوا لإبرازها أمام الإعلام المغربي، فإن محبتهم الحقيقية والفعلية هي لدولتهم، في المقام الأول والأخير، ولذلك، لا يمكنهم المغامرة باللعب بمصالحها والتفريط فيها، مع دولة مؤثرة في السياسة العالمية، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، دولة مثل فرنسا، بالتقرب من المغرب، بمساعدته على التنصت على رئيسها…

ويصل العبث ذروته في قضية بيغاسوس، عندما يقع اتهام المخابرات المغربية بأنها تتنصت على الهاتف الخلوي للعاهل المغربي محمد السادس. من يقول هذا الكلام لاشك في أنه لا يعرف المغرب جيدا، السلطات القانونية، والدستورية، والدينية، والمالية، والتاريخية التي تتمتع بها المؤسسة الملكية واسعة جدا، فالملك هو الذي يختار بنفسه الأشخاص لهذه المناصب الاستخباراتية الحساسة، إنها مناصب سيادية وتدخل في نطاق تخصص الملك الحصري، وهو الذي يعين كبار المسؤولين فيها بنفسه، ولا يختار ولا يعين، إلا من يكون أهلا لثقته، ويشتغل معه بشكل مستمر، ومداوم، وبطريقة مباشرة..

إذا ارتأى الملك تغيير أي مسؤول من هؤلاء، فإنه يغيره بجرة قلم، ببلاغ يصدر في جملتين، ويُقرأ في الإذاعة والتلفزة، ويُنشر في الصحف، ويصبح الأمر مفعولا بأثر فوري، وتستمر الحياة على إيقاعها الطبيعي، ولنا في تجربة وزير الداخلية المغربي الشهير إدريس البصري المثال الساطع على ما نقول، فلقد كانت لديه عمليا سلطات كبيرة، ونفوذ طاغ ومرعب، في عهد الراحل الحسن الثاني، ولكن حين أقاله محمد السادس من منصبه، انبرى الرجل من الساحة، وغاب عنها، وكأنه فصُّ ملحٍ وذاب في الماء.

 بحكم الأمر الواقع، فُرِضَ على إدريس البصري شبه حصار، ولم يعد يجد في المغرب من يُكلِّمُه، أو يردُّ حتى على مكالماته الهاتفية، فاضطر المسكين للهجرة إلى فرنسا، وعاش هناك أواخر أيام عمره، إلى أن وافاه الأجل المحتوم. ولاشك أن في قصته ونهايته، عبرةٌ لمن يعتبر.

 التنصت الاستخباراتي المفترض على الملك لا يتم من جانب فردٍ واحد لكي يحفظه سرا لا يبوح به حتى لزوجته. إنه عمل يفترض فيه أنه يتم بشكل جماعي، لتتبعه، وتسجيله، وحفظه، وأرشفته، والمعلومات التي يتضمنها ستنتقل بين العاملين في الخلايا المكلفة بجمعها، إنها تمرُّ بين أفراد عدة، وتصبح معلومة من طرفهم، ولذلك يستحيل أن يظل التنصت على الهاتف الخلوي للملك عملا سريا، إنه سينفضح حتما، وسيكون الثمن غاليا بالنسبة لمن يجرؤ على القيام به..

توجد في المغرب عدة أذرع استخباراتية وأمنية، وكل واحدة منها تشتغل مستقلة عن الأخرى وقد تراقبها، ومن المؤكد أنها تتنافس بينها لتقديم المعلومات الطازجة للقصر، وكل واحدة منها تتسابق مع الأخرى لوضع المعلومات المستجدة والمهمة على طاولة الملك، لتحظى بالحظوة، وإذا كان ذراع منها يتنصت على هاتف الملك، فإن أمره سينكشف من طرف ذراعٍ آخر، وسيوضع حدُّ لهذا التصرف.

الخوف هو أن نكون أمام قنابل من دخان لإخفاء حقيقة الصراع الجيوستراتيجي بين القوى العظمى الذي باتت تعرفه منطقة المغرب العربي، فبعد  صفقة الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه مقابل التطبيع مع إسرائيل، يبدو أن الدول الأوروبية التي كانت لديها أطماع في الحصول على شيء من كعكعة الثروات الموجودة في الأقاليم الصحراوية المغربية، صارت تشعر بأن الولايات المتحدة قد وضعت أيديها على جميع تلك الثروات، وأنها ستحتكر استغلالها عبر شركاتها بالتنسيق مع المغرب، وستخرج أوروبا من السوق خاوية الوفاض، ولذلك انطلقت الحملة هوجاء ضد المغرب، بدأت ألمانية، ثم صارت إسبانية، وها هي تتدحرج لتصبح فرنسية، وفي كل مرة تحت مسميات مختلفة…

كان الله في عون هذه المنطقة، فلقد باتت ككرة تتقاذفها الأقدام من هذه الجهة إلى تلك، وحكامها يتفرجون على ما يقع لها، وهم يتخاصمون ويتعاركون بينهم، غير مبالين بما يتم إعداده لها من خططٍ جهنمية في الغرف السوداء والمظلمة..

كاتب مغربي

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *