في اللحظة التي انتهي فيها من صلاة الفجر وقراءة القرآن والدعاء لله.. بدأ يشعر كأن ثقل جسمه يتضاءل يخف وأنه يذهب بخفة وزنه إلي مكان بعيد بعيد، يقترب من التحول إلي شبح هلامي أو كيان نوراني أشبه بالملائكة، لكن آدميته مازالت فيه، صوته مسموع يداه تتحركان نعم.. وتستطيع أن تلمس الأشياء.. كل الأشياء..
ثمة شئ آخر يربطه بهذه الدنيا التي يعيش علي أرضها ألا وهي العائلة عائلته التي ولد فيها وعاش بين أفرادها حتي أصبح في العشرين من عمره يحس بأحاسيسهم ويتألم لآلامهم، يأكل طعامهم، ويحلم أحلامهم.. حتي صار إلي ما صار إليه..
التفت خلفه حيث توجد القنابل والحزام، بدأ يثبتها فيه بحيث لا تفلت منه وهو يتحرك أو يجري ماضيا إلي المكان الذي كان قد تحدد له..
وعندما انتهي من ذلك، وضعه في مكان بعد أن غطاه ببعض الأغطية، فقد كانت هناك كلمته الأخيرة يقولها لأهله الذين يراهم لآخر مرة..
أبوه هناك كان يقظا لكل ما حوله، كل أحاسيسه كانت تخبره بكل ما يفعله ابنه وبما هو صائر إليه، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، فقط قال له عندما رآه يقترب منه: أنت قادم لتقبلني يا بني، أنا الذي أريد أن أحتضنك وأن أقبلك قبلة تبقي إلي يوم أن ألقاك!..
دمعت عيناه وهو في حضن أبيه ولم يرد أبدا أن يزيد أحاسيس أبيه بما لا يطيقه، حاول أن يخلع عنه ذراعي أبيه بكل رفق.. بينما بقيت يده اليسري معلقة بذراع والده وهو ينحني علي جسد أمه المتهالك من كل ما تعاني منه أراد أن يقبل يديها وأن يلمس صدرها حيث رضع حنانها وقلبها الذي تحتفظ في داخله بالحب كل الحب له ولإخوته.. إنه يعرف أن صورته مطبوعة فيه..
فتحت أمه عينيها تودعه بهما وظهر إصبع يدها سبابتها اليمني ترفعه وتتحرك شفتاها بالشهادة بينما دمع عينيها يؤكد أنها قد استودعت ولدها عند رب كريم..
لم يبق أمامه إلا أخوه الصغير، مازال نائما هناك في صورة ملاك..
هذه هي اللحظة القاسية التي لم يتصور أبدا أنه يستطيع أن يعبر بها أو يخوضها، ولكنه وبكل الحب انحني عليه لمس بأصابعه وجهه الجميل وراح يهمس في أذنه وكأنه يسمعه: والله لولا أحببتك ما تركتك والله لولا أعلم أن الأرض لا تصير إليك إلا بهذه الشهادة ما فعلت، والله إني قد أحببتك أكثر من نفسي ومن أجل هذا فقد قدمت نفسي إليك راضيا مختارا سعيدا قرير العين..
وبدأ يتحرك بعيدا عنه ناظرا إليه..
الدمع في عينيه ينهمر يغطي خديه وهو يردد بصوت قد تحشرج:
والله لولا أحببتك ما تركتك..
والله لولا أحببتك ما تركتك..
والله لولا أحببتك ما تركتك..
………
ثم خرج جاريا..
عاد إلي حيث كان ينام..
ربط الحزام حول خصره..
والله ما أحس بلحم بطنه وهو يربطه بقوة، والله ما أحس وهو يفتح الباب برفق..
والله ما أحس وهو يمضي في الطريق مسرعا إلي حيث الهدف..
لا.. ولا أحس بطول المسافة التي قطعها..
لا.. ولا أنه ترك أرضه داخلا إلي أرض العدو..
ولا العدو رآه..
وكأنه بالفعل قد تحول إلي ملاك من ملائكة الرحمن، فلا يراه أحد..
ولا يحس به أحد!..
كانت كلمات القرآن تغطي كل نفسه وعقله وأحاسيسه وهو يضغط بدوره علي الزناد..
قد أحس شيئا وهو ينطلق أشلاء هكذا تطير في الهواء..
وعندما تناثر دمه علي أرض المكان رأي بعينيه أن الدم يكتب علي الأرض: لا إله إلا الله..
كانت روحه ترفرف علي المكان تطير فرحة بكل ما تلقاه..
ومرة أخري تبصر عيناه.. فنظره وقتها حديد.. يري من قريب ويري من بعيد..
والنور يملأ المكان..
النور يخرج خارج المكان..
النور يضئ طريقا طويلا يمضي إلي بعيد..
وإذا به وهو هناك في مكان فوق هذا الطريق..
يري أخاه الصغير يمضي يجري يهرول فرحا إلي حيث ما يريد!..
……………………………….