وقفة مع مقال الدكتور محمد الأحمري: التحليل العقدي

واعتقادنا أن الدين رؤية شمولية للكون، ولمكان الكائنات فيه، ولمكان الإنسان منه، وعليه يرتكز تحديد العلاقات المختلفة التي تحكم حركة الحياة والأحياء فيه...
إبراهيم الأزرق

ذكر الدكتور في مقاله أن غياب شيء مما أسماه تارة أسساً وتارة أدوات تحليل للموقف السياسي؛ أو المبالغة فيه يضعف التحليل السياسي ويحرفه إلى جزء من القضية، ثم وصف التحليل الناجم عن ذلك بأنه رديء وخاطئ ، يورط أصحابه.

وفي تقديري لو قال الدكتور: قد يضعف التحليل السياسي، أو ربما أضعف التحليل، فجعل للاحتمال مجالاً لكان به أحرى، وربما كان إلى الصواب قاب قوس أو أدنى.

فعندها كان بالإمكان أن نفسر مراده بالتحليل العقدي: التحليل العقدي المنحرف البعيد عن فقه الواقع، أو الصادر عن غير أهله العالمين به.

ويبدو أنه قد استقر في ذهن الدكتور استبعاد أن يكون الأثر العقدي هو المحرك للنازلة التي انبثقت عنها فكرة مقاله أعني حرب لبنان، فهو يعلم أن ما أسماه بالأسس تارة وبالأدوات أخرى ليس شرطاً اجتماعها لينتج عنها موقف أو صراع، بل قد يكفي أحدها أو بعضها لخلق صراع وهذا هو الكثير المطرد. وإذا كان الأمر كذلك فإن من أهم أسباب الصراعات الخلافات الدينية، والتي جعلت العقائد من أصحابها جذوات تغذيها على مدار التاريخ، “ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” [البقرة: جزء من الآية 217]، والقاعدة الشرعية التي انطلقت منها غارات المسلمين في صدرهم الأول هي قوله _صلى الله عليه وسلم_: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله” [متفق عليه]، ولن أسترسل في سرد نصوص شرعية من أجل تأكيد حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل قديم، وأن الحروب المقدسة التي شنت على مر العصور كانت العقائد محورها الرئيس أياً كانت ديانة أصحابها، فإن من أنكر هذا هو الذي ينبغي أن لا يفيد رأيه شروى نقير، ولايزن من قطمير، وليس ذلك ادعاءً! وإذا كنتَ على قناعة راسخة من أن الحروب أو الأحداث قد تنشأ لأحد الأسباب التي سماها الدكتور أسساً أو أدوات، فقد علمت إذاً أنه ليس شرطاً أن يضعِف التحليل السياسي غياب شيء مما ذكر إذا اقتُصر على السبب الصحيح للأزمة في التحليل، وإن تبعته مظاهر أخرى لم تجيء استقلالاً؛ وقد يضعفه إذا وإذا فقط استُبعد السبب الرئيس واقتُصر على مظاهر جانبية قد تقصد تبعاً.

ولعل غلبة حكمه وتصوره لنازلة معينة يفسر اضطراب الدكتور في بعض عباراته، فتارة يلغي احتمالات ممكنة في التقرير النظري، أو من حيث التقسيم العقلي، ولعل ذلك لغلبة تصوره للنازلة المعاصرة على ذهنه، وتارة يقارب في التقرير النظري ثم ما يلبس أن تغلب عليه الصورة فيرجع لينقضه، وخذ على سبيل المثال كلمة تتعلق بأس مقاله وهي قوله: “قد يكون العامل العقدي في لحظة ما صحيحاً بل وحاسماً وهناك أدلة عليه”.. وهذا تقرير نظري جيد، إلاّ أن تصوره للنازلة ما يلبث حتى يغلب عليه فيرجع إلى ما تُعُقِب فيه أولاً فينسف كل احتمال لصواب التحليل العقدي مجرداً فيقول: “إن العقائد جزء من التحليل، ولم تكن ولن تكون مدار كل تحليل سياسي أو معرفة لموقف”.. وليت شعري ما حيلة المحلل إن لم يكن ثم دافع لبعض الأحداث غير اختلاف الدين وافتراق العقائد؟ فحتى يكون تحليله سياسياً موفقاً وفقاً لوحي هذه العبارة، فلابد أن يرى سبباً ما ليس بالسبب!

نعم قد يكون التفسير العقدي ولاسيما بين أصحاب العقائد الواحدة مستبعداً في تفسير صراعات ناشئة بينهم، بل قد يستبعد وإن كان المتنازعان مختلفين ديناً وعرقاً وجنساً وثروة وقوة وفي كل ما أسماه الدكتور أسساً أو أدوات تحليل! ولعل أول نزاع بشري عرف على سطح البسيطة لم يكن دافعه ثروة ولا قوة ولا دين ولا لغة ولا تاريخ ولا جغرافيا ولا جنس ولم يكن دافعه شخص المجني عليه! ولكن تَقَبُّلُ الله من صالح قربانه دون أخيه!

ولعل (المشايخ) وعلماء الشريعة هم أبصر الناس بذلك، بل لعله ليس أحد من عامة الناس فضلاً عن غيرهم بحاجة إلى مفكر غاية فكره نتيجة بدهية تقول: من الخطأ حصر الصواب في التحليل العقدي للأحداث، مجرداً عن الواقع! بيد أنهم كذلك لاينقصهم من يهمشون من قيمة التحليل العقدي أو مراعاة أثر الاختلاف الأيدلوجي في النزاعات، ولعل هذا مما دفعني لهذا التعقيب.

فبينما يتحرك أصحاب المبادئ -أياً كانت- وفقاً لعقائد وأيدلوجيات ينظرون إليها قبل نظرتهم للمكتسبات المادية بل يتحملون بسببها الخسائر الاقتصادية من ثروات بشرية وما أوتيت نلحظ في دنيا العجائب من يحاول نسف التحليل المبني على المشاهدة وفقه الواقع ليصفه بأنه منبثق جراء التقوقع على كتب ومناهج الاعتقاد! بل ومن يحلل وفقاً لها قريب المدى لا يتعدى تحليله مواطئ قدميه، بل ومن يتبعه أو يوافقه غر ساذج! إلى آخر سلسلة الدعاوى المطلقة العريضة والتي تجاوزت أولئك المحللين إلى الطعن في أحداث التاريخ والدعوة إلى الاعتبار بها! بل ربما تجاوزت ذلك أيضاً…! ولابينة أو برهان.

إنك لن تستطع أن تقنعني مهما زخرفت قولك وحاولت أن تصوغه صياغة منطقية بأن الصدر الأول لم يكونوا يشنون الغارات ويقتحمون الحروب لأسباب دينية أو عقدية، مهما كانت المغانم المحرزة والثروات الطائلة المحازة! أو أن التحليل العقدي المنبني على معرفة التوجهات للمختلفين والدوافع المحركة لهم تحليل عاطفي بعيد عن أسس المعرفة، وكذلك لن تقنعني بأن زرع إسرائيل في قلب العالم العربي جاء اعتباطاً أو مراعاة لمصالح مادية منفكاً عن الأسس العقدية، ولن تستطيع أن تقنع مبصراً تفتح عيناه على أرض الواقع بأن حزب الله مجرد حزب سياسي يسعى لتحقيق مصالح ذاتية أو أن حربه مع إسرائيل ليست حرباً عقدية بالدرجة الأولى مبنية على أسس المذهب الإمامي ومصالحه في المنطقة.

إن رفض التفسير العقدي لمجرد أن الطرف الآخر لا يشق عليه تفسير أحداث أخرى بناء عليها ليس بشيء! ولهذا لا يبدو مقنعاً قول الدكتور: ” فالمشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية، وانحراف وتوريط نجد تفسيرهم عقدياً جزئياً وخاطئاً، وبهذا فهو يؤيد الذين هم على الطرف الآخر الذين يرون سبب الإرهاب والقتل والدمار في العراق هم السنة مثلا”، فمع أني أوافقه في أن المشكلة ليست شيعية تريد أن تورط المنطقة في حرب لبنان، لكني لا أرى رابطاً بين من يقول بهذا وبين قوله: “وبهذا فهو يؤيد الذين هم على الطرف الآخر”، فأي تأيد وأين التأيد! اللهم إلاّ إن أراد تصوير التحليل العقدي على أنه جملة افتراءات متبادلة لا أساس لها من الصحة يتنابذها طرفان!

فهل التحليل العقدي عند هؤلاء كذلك؟ بل هل هو في نظر الدكتور كذلك! هذا يتعارض مع شيء مما قدمه.

إن ادعاء التحليل العقدي مثله مثل ادعاء التحليل الاقتصادي كلاهما دعاوى قابلة للافتراءات، وللغلط والصواب، وكما أنه من الخطأ الحمل على المحللين من وجهة نظر اقتصادية لمجرد غلط بعضهم في التحليل وجهلهم بمقومات الاقتصاد فكذلك من الخطأ أن ننعى على المحللين العقديين إذا رأينا طرفاً آخر يحلل وفقاً لأوهام وخزعبلات لا مكان لها في أرض الواقع، ولا يسوغ صنيع هذا النعي على التحليل العقدي المبني على الحقائق الشرعية والواقعية. وكما أنه إذا قيل تحليل اقتصادي انصرف الذهن للتحليل المبني على أسس اقتصادية سليمة، فكذلك ينبغي أن يصرف الذهن عند إطلاق التحليل العقدي إلى التحليل المنبني على أسس عقدية مستقيمة.

نعم عند أولئك الذين يرون أن الحق في مسألة الأديان نسبي ولا يوجد فيها حق مطلق عند أولئك فقط يمكن أن يتصور ما قاله الدكتور فعندها يثير التحليل العقدي النسبي الصحيح تحليلاً عقدياً نسبياً صحيحاً آخر معارضاً وكلاهما صواب، بيْد أني لا أخال الدكتور يقول بذلك، ولكنها عقدة الحكم على نازلة وطغيان تصور صواب مذهبه فيها على فكره أثناء التنظير الفكري الكلي والتقعيد العام، أو بشيء يشبه عبارات الدكتور: “لأنه يؤمن بأن حكمه على القضية الجزئية حق وما سواه باطل، واثق في حكمه وموقفه –ولا أجرؤ أن أقول الضيق- المعصوم خاصة وأن جماهير الأمة والشوارع العربية خرجت تحمل الرايات الصفر معلنة وجوب التضامن مع من يرى أن التحليل السليم يقضي بالتعاون معهم”… فليت شعري أي المحللين أحق بوصف الزهو والغرور في موقفه ورؤية صوابيته دون غيره وعصمت رأيه”خاصة داخل دائرة الأتباع الضعفاء، الذين حرموا من التفكير النقدي والعقلي، وامتلؤوا بالتكبير”، لعل الشارع العربي قد أجاب!

إن التحليل العقدي للأحداث عندما توجد أسبابه يكون من الأهمية بمكان، ويمثل تجاهله خطأ لا يقل عن خطأ المنزلين له في غير موضعه، وهذا ما لا يكاد يرتفع به صوت إسلامي واع في الساحة، ولهذا لم يفسر أحد من المشيخة حرب فيتنام مثلاً! على أساس عقدي بين شيعة وسنة، وذلك ببساطة لأنه لم يكن في الحرب من يمثل أحد الاتجاهين ويتحرك باسمه تماماً كما كان الحال في بعض حروب منطقة الشرق الأوسط!

بخلاف حرب العراق وحرب أفغانستان وحرب لبنان وحرب فلسطين فتفريغها من المحور العقدي والمبادئ والقيم خداع لم يدعه محقق فليت شعري كيف يكون إثبات الحق الذي لا يكاد ينكره إلاّ الشاذ لا يساوي عند الدكتور حبراً على ورق!

وأخيراً ربما رأى البعض تحاملاً في مقالي على دكتورنا الفاضل، وربما أيده بأن في كلام الدكتور ما يبين فيه أن التحليل العقدي الجزئي المنفصل عن بقية العوامل المؤثرة، هو المقصود بالذم وأهله، وقد أشار إلى أنه في بعض الأحيان قد يكون صحيحاً وحاسماً، فلِمَ الرد ولـِمَ لمْ يحمل كلامه محملاً حسناً ويخرج تخريجاً مقبولاً؟

والجواب باختصار هو ما لحظته من اضطراب للدكتور في هذا الشأن فما يلبث أن يقرر إمكانية أن يكون التحليل العقدي صواباً بمفرده حتى يرجع لينقض ذلك، وقد أشرت إلى هذا في مقدمة الرد.

كما أن طابع المقال العام فيه سوء تصوير للتحليل العقدي يصوره على أنه مجرد افتراءات وتهم متبادلة وينفر من الركون إليه مطلقاً، بل يصف من نحا إليه بما لا يليق، ويصف من وافقهم بما حاصله أنهم حفنة من الهمج الرعاع! ولاسيما مع ضرب مثل بالواقع الماثل وهذا له وحيه الذي يصرف الأنظار صرفاً نحو أعلام منشورة.

وفوق ذلك كله -وفي اعتقادي أنها قضية جوهرية أوقعت في كثير من الخلط وسببت هذا التشويش والتشويه- اعتباره وفقه الله الدين جزءاً من السياسة، كما في أول سطرين من مقاله، واعتقادنا أن الدين رؤية شمولية للكون، ولمكان الكائنات فيه، ولمكان الإنسان منه، وعليه يرتكز تحديد العلاقات المختلفة التي تحكم حركة الحياة والأحياء فيه، فهو الذي يحدد علاقة الإنسان بالطبيعة بل بما فوق الطبيعة. وما السياسة الشرعية إلاّ جزء من أبحاثه، ولذا فإن المحلل الديني ينظر في حكم الله، وينظر في الواقع بكل مكوناته لينـزل الحكم الذي لا يأتيه الباطل على المحل الصحيح، وليس المحلل العقدي هو الذي يملك نصف الصورة أو صورة مشوهة لا تمثل الحقيقة، بيد أن البشر موضع للخطأ، وهذا يصح أياً كان وصفهم محللون سياسيون أو دينيون!

وقبل أن أشرع أكبرت كتابة هذا الرد على الدكتور، فلما تأملت من تناولهم مقاله بالتعريض سهل علي ذلك بل رأيته من الواجب فليس المحل بيني وبينه بأبعد من المحل بينه وبين من تناول –في اعتقادي!

ومع ذلك ولحرصي على أس الموضوع فقد تغافلت عن أمور لو كان غرضي مجرد تسفيه رأيٍ مخالف أو تصورٍ لبعض الأحداث لكان للوقوف معها والتعليق عليها مجال واسع.

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *