آسيا جبار… ما بين إرث التقاليد وحرية الرؤية: أزمة الفرنكوفونية والاغتراب عن اللغة

القاهرة ـ «القدس العربي»: رحلت الكاتبة والمناضلة الجزائرية (آسيا جبار 1936 ــ 2015) في باريس، وتعتبر من أشهر الروائيات العربيات في العالم الفرانكفوني.

آسيا جبار… ما بين إرث التقاليد وحرية الرؤية: أزمة الفرنكوفونية والاغتراب عن اللغة

[wpcc-script type=”fc41c1c84eb2c449751c0e87-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: رحلت الكاتبة والمناضلة الجزائرية (آسيا جبار 1936 ــ 2015) في باريس، وتعتبر من أشهر الروائيات العربيات في العالم الفرانكفوني.
ارتبط أدب جبار ــ اسمها الحقيقي فاطمة الزهراء ــ بالمقاومة وحرب الاستقلال، لتخوض دروباً جديدة من أجل البحث عن خلاص للمرأة الجزائرية، التي تتماس مشكلاتها مع المرأة في العالم العربي والدول المتخلفة بشكل عام. ورغم ما مثلته آسيا جبار من قيمة أدبية وفكرية رفيعة، وحازت العديد من الجوائز الأدبية، كما أنها أول كاتبة عربية يتم ترشحها لجائزة نوبل للآداب لعدة سنوات منذ عام 2009، إضافة إلى كونها أول امرأة من شمال أفريقيا تصبح أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية، إلا أن هذا التاريخ لم يجد له صدى في دول المشرق العربي، وهذه مأساة أخرى تضاف إلى المآسي الكبيرة التي يتميز بها العرب. وكانت هذه المشاركات من بعض الأدباء العرب في وداع الكاتبة الكبيرة، وربما تكون التفاتة لترجمة أعمال آسيا جبار إلى اللغة التي اغتربت عنها، من دون الاغتراب عن واقعها وأساطيره وحكاياته الشعبية.

اغتراب الذات

يُشير الروائي والناقد الجزائري حبيب مونسي إلى حالة الكاتبة آسيا جبار نظراً لمكانتها في الأدب الجزائري والفرانكفوني من خلال مشكلة اللغة المزمنة، إذ يقول… «لقد كانت الكتابة باللغة الفرنسية ولا تزال في الجزائر قضية حساسة جداً، نظرا للإرث الكولونيالي الثقيل والقديم الذي تركه الاستعمار في الذاكرة واللسان، والذي طرح أمام المثقف الجزائري معضلة ازدواجية اللغة.. فمن السياسيين مَن نظر إليها باعتبارها غنيمة حرب، يجب التعامل بها ومعها من منطق الاستفادة في مرحلة انتقالية.
ومن المثقفين المفرنسين مَن رأى فيها بكل بساطة لسانا يسعفه في التعبير عن ذاته وأفكاره ورفع مشاعره، من غير أن يكون للغة من سلطان على هويته واتجاهه. وأن ما يكتبه بالفرنسية يعتبر أدباً عربياً، لأن الروح السارية فيه روح عربية جزائرية.. ومن المثقفين مَن وجد في اللغة استلاباً يخرج كاتبها من دائرة العربية، وأن ما ينتجه من أدب لا يمكن أن يعد أدبا عربيا وإنما يحاسب على أنه أدب فرنسي بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد الانتماء والهوية والتاريخ.. وحينما يريد المثقف اليوم الحديث عن أسماء جزائرية اختارت المنفى الاختياري لتعيش غربة مزدوجة على الضفة الأخرى، وهي لا تنكر شيئا من هويتها، ولا شيئا من تاريخها وانتمائها الحضاري والجغرافي، غير أنها تؤمن بما في الحضارة الغربية من رؤى وقيم وتوجهات، وتتبنى كثيرا من مواقفها تجاه الإنسان والأفكار، تشعر أن موقفها هذا يحتم عليها أن تكتب في برزخ مضطرب يقع في البين بين، فهي لا تريد أن تفقد انتماءها الأول، ولا تريد أن تذوب في وسطها الجديد، فتراها تعيش المأساوية مضاعفة فيما تنتج وما تشعر به.
وآسيا جبار من هذا النوع الذي نشهد في كتابته تمسكه بتربة بلده، تمسكا يغوص في أعماق التقاليد والأعراف، ويفتش فيها عن تناقضاتها التي صنعها التخلف والاستعمار، وفرضتها الازدواجية التي حتمت على الإنسان الجزائري، والمرأة الجزائرية خاصة، أن تتأرجح بين قطبين.. قطب التقاليد البالية، وقطب الحرية التي تمكن الذات من التفتح على العالم والاستفادة منه.. وإذا نحن تتبعنا ما نشرته من روايات منذ عام 1957 إلى غاية كتابها الأخير «لا مكان في بيت أبي «Nulle part dans la maison de mon père، roman (2007) « وجدنا خطا واضحا من التفكير يساير الأحداث التي مر بها الوطن مرحلة بعد أخرى، وكأن السيدة كانت تعيش هناك، ولكن عينيها لم تفارقا الجزائر .. أما الأمر الذي يعزز هذا الفهم فكونها في تكوينها العلمي والمعرفي أستاذة تاريخ الحضارة، وكونها ابنة معلم عربي دأب على أن يعيش في بيته عيشة الجزائريين، وأن يكون في مدرسته الفرنسية معلما مثاليا، يخضع للقيم التي تبشر بها المدرسة الفرنسية.
إن الجفوة التي توجد بين المعربين والكتاب الذين يكتبون بالفرنسية والتي تثار في زوابع سياسية محدودة، وأخرى فكرية موقوتة، ربما حالت أولا بدون ترجمة أعمال آسيا جبار إلى العربية، كما أن القارئ المعرب لا يلتفت عادة إلى الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية إلا نادرا.. وكأن اهتماماتها الفكرية والجمالية لا تعنيه من قريب أو بعيد، أو أن الكاتب الذي يكتب بالفرنسية يتوجه إلى شريحة من القراء لا تنتمي إلى العربية أساسا.
هذه بعض من المعضلات التي تثيرها مسألة الازدواجية اللغوية في الشمال الأفريقي بشكل عام، والتي كنا نظن أنها ستزول تدريجيا بفعل التقادم وتمكين العربية من الألسنة بفعل التربية والتعليم، غير أن تحول كثير من الأدباء المعربين إلى الفرنسية، أو مزاوجة الكتابة باللغتين، يطرح تساؤلات أخرى.. منها لمَن نكتب بالعربية؟ ولمن نكتب بالفرنسية في الداخل والخارج؟ وهل الكتابة بالفرنسية في السرد أريح وأسهل منها في العربية في ما يتعلق بالحديث عن التابوهات وغيرها؟ أم أن السرد العربي يحول دون نشر فكر معين يقابل بالمعارضة ويجد متسعا وقبولا في السرد الفرنسي؟ لم تكترث آسيا جبار كثيرا لمسألة اللغة ابتداء ولكنها في نهاية القرن الماضي خصصت لها عملا تحدثت فيه عن) هذه الأصوات التي تحاصرني على هامش فرانكوفونيتي) «Ces voix qui m’assiègent: En marge de ma francophonie، essai (1999)» ثم أتبعته بنص آخر عن «اختفاء اللغة الفرنسية « «La Disparition de la langue française، roman (2003)» ولا يكون هذا الاهتمام إلا جراء الاحساس الحاد بالانفصام اللغوي الذي يبعث عليه الاغتراب الثقافي والمكاني في الوطنين معا وفي الذات المثقفة.

قضايا الوطن المزمنة

من ناحية أخرى يرى الشاعر المغربي محمد بنميلود أن آسيا جبار حملت قضيتها مثلما تحبل امرأة بطفل، بذلك الحرص الذي للأم وللأنثى، لم تحد عن قضيتها، ولم تقبل بإجهاضها حتى بعد الاستعمار، بل ظلت تحمل قضيتها حتى النهاية. إنها مثال للمرأة الشمال أفريقية القدوة، الرائدة والمثقفة الحقيقية التي فضلت المنفى على التدجين. إنها ليست أديبة من الطراز النادر فقط، بل مثقفة وأكاديمية ومعلمة لأجيال من الجزائريات والمغاربيات للمبادئ الأولى للثورة على القيود مبكرا جدا، في نواة أولى للحركة النسائية التحررية، حين لم يكن للمرأة صوت يسمع.
نحن بحاجة ماسة اليوم أيضا لاستعادة هذه الأسماء من المهجر، ومن اللغات الأخرى، إلى العربية، بالترجمة والدراسة، وبتكريس هذه الروح الحقة للأدب، لمقاومة المد الظلامي، سواء للسلطة أو للفكر والأدب الذي أنتجته الأنظمة الاستبدادية بكتابها ومثقفيها، علينا استعادة آسيا جبار لتبقى حية حتى بعد وفاتها، هذا هو ما يمكن أن يقدمه لروحها مبدعونا الذين لا يزالون أحياء، من أجل «أطفال العالم الجديد»، من أجل الجزائر وشمال أفريقيا والعالم العربي.

مُحاربة الاستعمار بلغته

ويرى الناقد والمترجم المصري محمود قاسم الأمر بشكل آخر، حيث أن جبار قاومت الاستعمار بلغته، وهي نموذج لنساء عديدات تائهات بين حضارتين. وقد قيل إنها حاربت الفرنسيين بالفرنسية. وذلك حسبما يقول الكاتب المعروف ألان بوكيه «إن الكتابات التي وضعها كتاب شمال افريقيا العرب قد أحدثت الزلزال. مؤكدا أنه كان من المفروض أن تترهل الثقافة الفرنسية». اكتشفت الكاتبة وهي تبحث في التاريخ أن اللغة الفرنسية التي تكتب بها ملطخة بالدم. وحين دققت في تاريخ العلاقة بين الضباط الفرنسيين وأثرياء الجزائر، رأت أن العنف هو الشاهد الذي تكتب به التاريخ، أو كما تقول: «أنا وريثة هؤلاء القتلى. لقد حاولت من خلال هذا الكتاب أن أثبت أن هناك دماء في ميراث اللغة».
في إحدى الحوادث الدامية التى كانت تهتم بها تتحدث عن وقائع إحراق خمسمئة جزائري في 19 يونيو/حزيران 1845 على أيدي الفرنسيين في الخزانات السابق الاشارة إليها. وتقول آسيا في الحديث نفسه عن علاقتها باللغة: «درست اللغة الفرنسية. وأصبح جسدي منسقا على النمط الغربي». وعندما كان الآخرون يسألون الأب عن السبب في أن بناته لا يرتدين الحجاب يرد: «لانهن يذاكرن. وبفضل المدرسة الفرنسية استطاعت البنات الهروب من المحبس كي يعبرن عن طموحهن. وتعلمت الكاتبة الفرنسية كلغة كتابة وليس سوى ذلك. وهي تقول إنها تعلمت الفرنسية كي تسرق شيئا من عدو الأمس.
ويُضيف قاسم أنه ما دمنا بصدد الحديث عن ازدواجية اللغة عند الكاتب، فإن آسيا جبار قد عانت الكثير من هذا الاغتراب بين لغتين وهويتين ثقافيتين. وقد تحدثت في مجلة «اليوم السابع» أنه «لأننا لم نكن قادرين على الكتابة مباشرة بالعربية، فقد بذلنا جهدنا لكي يصار إلى ترجمة أعمالنا سريعا إلى هذه اللغة. وأسفر الأمر عن ظاهرة غريبة. إذ أن أدبنا، إن تحول إلى العربية، لم يحقق النجاح المرتجى. والذنب هو ذنب عملية العبور هذه أكثر مما هو ذنب نوعية الترجمة. فالجمهور لا يحب هذا النوع من التأقلم. الجمهور الذي يقرأ أبدى الكثير من الحذر، لأنه يفضل أن يكشف الكتاب المغاربة عن نصوصهم مباشرة». هذه القامة الأدبية الكبيرة، رحلت بدون أن تترجم أي من رواياتها إلى اللغة العربية، وهي الكاتبة التي ظلت ثقافتها عربية طوال عمرها ولم يكن لجوؤها إلى اللغة الفرنسية سوى سبب قهري ليس لها دخل فيه.

ببلوغرافيا

ولدت آسيا جبار (فاطة الزهراء إيمالاين) في شرشال غرب الجزائر في 30 يونيو عام 1936. وتعتبر أول أستاذة جامعية في جزائر ما بعد الاستقلال في قسم التاريخ والآداب. وقامت بالتدريس في عدة جامعات حول العالم، منها جامعة نيويورك، التي عملت بها أستاذة للأدب الفرانكوفوني. رحلت في باريس في 6 فبراير/شباط 2015.

الأعمال الأدبية:
ـ العطش 1957.
ـ القلقون 1958.
ـ أطفال العالم الجديد 1962.
ـ القبرات الساذجات 1967.
ـ قصائد للجزائر السعيدة (شعر) 1969.
ـ رباعية الجزائر.. نساء الجزائر في مساكنهن 1980/ الحب والفانتازيا 1985/ظلال السلطانة 1987/بعيداً عن المدينة المنورة 1991.
ـ واسع هو البحر 1995.
ـ الجزائر البيضاء 1996.
ـ ليالي ستراسبرغ 1996.
ـ وهران لغة ميتة 1996.
ـ امرأة بلا قبر 2002.
ـ اندثار اللغة الفرنسية 2003.
ـ لا مكان في بيت أبي 2007.

أعمال سينمائية:
ـ نوبة نساء جبل شنوة 1978. حاز الجائزة الدولية في مهرجان فينيسيا.
ـ الوليمة أو أناشيد النسيان 1982. جائزة أفضل فيلم تاريخي في مهرجان برلين.

الجوائز:
ـ أول كاتبة عربية تفوز بجائزة السلام التي تمنحها جمعية الناشرين الألمانية في معرض فرانكفورت الدولي 2002.
ـ أول عربية تنال عضوية الأكاديمية الفرنسية 2005.
ـ أول عربية يتم ترشحها لجائزة نوبل منذ عام 2009.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *