أجملُ الشِّعر ذلك الذي تصدِّقه
[wpcc-script type=”a29835adbb50f5f8ee4b53d7-text/javascript”]
إلى منذر مصري عن ديوانه «الشاي ليسَ بطيئاً»..
ولأنني لا أحبّ النقاد، وأظنّ أنّ كلامهم طفيليّاتٌ بغيضةٌ تعضُّ جلدَ القصائد، وتدفعنا لنهرشها فتصبحَ طافحة بالحبوبِ والبثور، قلت: لن أكتبَ نقدا لأنّه ليس مهنتي، ولن أكتبَ قراءة في كتابكَ لأنني شخصٌ مُشوَّش وقراءتي غير مرتّبة، ولأنّ الشعراء يكرهون بعضهم، قرّرتُ أن أحبّك.. وقرّرتُ أن يكون ما سأكتبه عن ديوانك
«الشاي ليس بطيئا» رسالةَ حبٍّ مدرسيّة.
صباح الخير يا منذر: لقد طبعت صورة الفستق المُحمّصِ بالسكر والعسل التي أرسلتها لي وعلّقتها في مطبخي. قرأتُ ديوانكَ كلَّ يوم قبل النوم، قلّبتُ المقاطعَ، بعثرتُ الأسطر، وتخيّلت.. كم تخيّلت وفي كلِّ صورةٍ أخالني أنا في ظلالها، لكنّ الرياضيّات تعيدني إلى الصّواب، فعندما كتبتَ أنت آخرَ قصائد الديوان كنتُ أنا في العاشرةِ من عمـــــري.. أجملُ القصائد هي تلك التي تجعلنا نظنّ أنفسنا أبطالها.
لقد استوقفني العنوان طويلا «الشاي ليس بطيئا» إنّه ينفي الوقت ويمنح للأشياءِ روح الزمن، غير أننا في سلمية نؤنثّ الشاي فيصبح (شاية) ولعلّنا الوحيدون، لكنك تلتقط الروح المؤنّثة للأشياء، وتعرف الأنثى المعرفةَ التي جعلتني غاضبة، كيف يعرف منذر كلّ أسرارنا؟ كيف يعرف كلّ تلك التفاصيل التي نعيشها ولا ننتبهُ إليها؟ هناك في قصيدته تجد الأنثى بجمالها الحيويّ، بعيدةٍ عما حقنتهُ الشاشات في متخيلنا عنها، تحتفي القصيدة بالمرأة الحقيقيّة بمشاعرها الحاقدة والمتقلّبة والممتلئة حنانا وغضبا وضياعا، بعيدا عن التعليب والاستهلاكي، تفتحُ المرأةُ نافذةَ القصيدةِ وتطلُّ لغة من لحمٍ ودمّ، لغة آدميّة، لغة فيها من البوح الإنسانيّ ما يجعلك تقفُ إلى مرايا ذاكرتكَ طويلا.. جماليّة وفرادة الفكرة وعمق فلسفتها، علوّ السرد والمجاز، فتنة اليوميّ الذي جعله بقدر ما هو يوميّ أصيلا ويفتحُ مجالاتٍ أوسعَ لالتقاط الانفعالات والرغائب، بقدر ما هو سرياليّ، هو مغرقٌ في الواقعيّة.
منذر يستطيع خلطَ الأشياء دون أن تضيعَ هويّتها، لا تطفو الألوان فوق بعضها، إنها تتداخل وتلمع، يمكن للّغةِ أن تكون حادّة كحرف صحنٍ مكسور، ويمكن أن تكونَ ناعمة كوجه الوسادة، دمٌ ودمعٌ يسيلان، ثمّ تخطفك ضحكة لا يمكنك حبسها حين يفاجئك منذر بفكرةٍ خبيثة لا تلمحها حتى الشياطين. النصّ يتنفّس، تستطيع أن تشعر بذلك، يبردُ الهواءُ من حولك ثمّ تلمسك نسمةٌ دافئة. جملةٌ تحتفي بالخيالِ والصّور حدَّ الضباب، وجملةٌ تُجلسكَ على كرسيّكَ في حالةِ انتظارٍ لما سيحدث.. تقرأ أصدقاءَهُ، تعرفهم كأنّك عشت معهم، لأن سطور منذر تفيضُ بالعِشرَةِ والوفاء.
الشاعر الذي يخلعُ قلبَهُ على الورق، فتنبتُ منه مدنٌ وشوارع وبيوتٌ وغرف، أسماءٌ ونساءٌ وأصدقاء، روائح وأصواتٌ ومشاهد تجعلك تصدّقُ أن الشِّعرَ قادرٌ حقّا على أن يغيّرَ العالم..
لكنّي أعرفُ أنّك تعرف أن الشِّعرَ هَشٌّ، وأنّك تكتبُ لتنجو لا أدري من ماذا.. لكنّ فيهِ لذّةَ النجاة، تشفقُ على نفسكَ حدَّ الرضا، وترتّبُ الأسئلةَ التي لم يطرحها أحد، والأسئلةَ التي لم يجد لها أحدٌ إجابة.. ترتّبُ نظرتكَ للكون، ليس على الشاعر فقط أن يمتلكَ رؤية شعريّة، بل على الإنسان أن يمتلك رؤية شعريّة، لكي يتصالحَ مع الموت والخلود والنوم والحب والندم والخيبة.. لكي يحتمل الشعر.. أنا القارئة المجنونة، قرأتُ العنوان وكتبتُ مرّاتٍ ومرّات (الشاي ليس بطيئا) وابتدأتُ الكتابَ صعودا من فهرسهِ، فارتديتُ النصوصَ واحدا واحدا، لغتُكَ كانت أثوابا عليَّ، رفعتُ ذراعيَّ وخلعتها لتنقلبَ وأقرأَ أسرارها.. وقربَ ما مَنَحَته لكَ مدينتكَ، وما منحتهُ لي مدينتي، (التّوق)، سنلتقي ونبوح بحكاياتنا.
٭ شاعرة سورية
لينة عطفة