أحمد دراج في «العولمة والتديّن والإرهاب»: ثلاثية تفكيك المجتمعات المعاصرة
[wpcc-script type=”f810165fd99d0953d6d525fa-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: إن كانت ظاهرة العولمة وانتهاجها كعقيدة قد انتهت بالأزمات العالمية، إلا أن تبعاتها لم تزل تعاني منها الدول التي أصبحت مسرحاً لفرض النظام الموسوم بالعالمي. ويبدو أن العديد من المؤلفات لم تزل ترصد بالتحليل هذه التداعيات، كضرب هذه الدول بآفة التديّن، وتجلي مظاهره في ما يُسمى بالإرهاب. آخر هذه الإصدارات جاء بعنوان «ثلاثية تفكيك المجتمعات المعاصرة … العولمة، التدين، الإرهاب» لمؤلفه أحمد دراج، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في 135 صفحة من القطع المتوسط. والذي يحاول فيه استعراض هذه التداعيات والأزمات التي تعمل على تفكيك شكل الدولة المتعارف عليه، سواء بإحياء النزاعات القبلية أو مذاهب الجماعات الدينية، والتي تأخذ في بعض الأحيان شكل رد الفعل، وفي أكثرها حالة من التواطؤ الذي أصبح مكشوفاً إلى حدٍ كبير.
ما بين الدولة الحديثة والدينية
يبدأ المؤلف في استعراض الفارق بين مفهوم الدولة من خلال المنظور السياسي الحديث والمفهوم الديني، ما بين فكرة الدولة وفكرة الأمة، التي تبناها الفكر الإسلامي. ويرى المؤلف أن بنية الإسلام تفصل بوضوح بين ثنائية الإيمان والأطر الاجتماعية الضابطة للسلوك والمعتقدات. هنا يرتب المؤلف نتيجة مفادها أن هناك فصلاً ما بين مفهوم الدولة والأمة، وأن الدولة من وجهة نظر الإسلام لم تكن سوى إطار للعيش المشترك، ولم تكن سلطة للإكراه والقوة، فالاعتقاد والانتماء الديني يعد سلوكاً شخصياً لا يقوم على الغصب، ولا يخضع لأي شكل من أشكال السلطة! وهذا المفهوم مردود عليه، بداية لأنه ينافي الوقائع التاريخية، منذ عصر النبوّة، فمنذ الهجرة وتأسيس دولة المدينة، لم ينفصم الدين عن السياسة، وبالتالي كان مفهوم (الأمة) هو الأساسي ــ وإن لم يكن بالمصطلحات الحديثة نفسها الآن ــ الذي انتهجه المجتمع الإسلامي. فالإسلام دين ودولة، والنصوص القرآنية تؤكد ذلك، ولم تقتصر على علاقة المخلوق بالخالق، بل نظمت المعاملات وكيفيتها، والعلاقة مع الآخر، ونتج عن ذلك التقسيم الشهير للدارين .. دار اللإسلام ودار الحرب. وعلى ذلك لم يظهر مفهوم (الأمة) مع ظهور حركات الصحوة أو النهضة الإسلامية في العصر الحديث.
الدولة في العالم الثالث
يبدو شكل الدولة في العالم الثالث معضلة في ذاته، ذلك لأن هذه الدول انطلقت من مفهوم قانوني له شرعية دولية، رغم افتقاده للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، التي تعد البنية الحقيقية والواقعية لبناء الدولة. فهناك خلل كبير في بنية أغلب الدول العربية، حيث يُشار في الكثير من الحالات أن وجود مثل هذه الدول أشبه بحالات الولادة القيصرية. وبالتالي يصبح الإسلام السياسي الذي نشأ في مناخ هذه الدول غير صالح لتشكيل وتحديد رؤية سياسية سليمة، وما طرحه المسلمون الأصوليون من أن الإسلام به من عوامل الأيديولوجية السياسية، والقادرة على بناء مجتمع إسلامي انطلاقاً من الدولة هي فكرة متناقضة، ويستحيل تنفيذها.
التطرف والعنف
انتقل العنف في اللحظة الراهنة من بنية محلية أو قومية نشأ خلالها، وتبلورت معتقداته إلى بنية النظام العالمي، مهما بدا للمراقب ما اكتسبه العنف الجديد من طاقة محلية أو قومية، وتعتبر نقطة الصفر في هذه التحولات بداية من العام 1970. حتى أن البعض تزيّد ورأى أن العنف الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الخارجية، إنما هو امتداد لما يُمارَس داخلياً في الولايات المتحدة منذ عام 1898، مُستشهداً بآراء أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، المتمثل في قوله «يجب أن تصمم مؤسساتنا على وصول القانون والعلم والنظام والحضارة الأمريكية إلى هذه المناطق والطرق التجارية في العالم، وقد يكون ذلك بصورة دموية». ففكرة التطرف وشكلها الفعلي المتمثل في الإرهاب وإن بدأت أفكاراً ومحاولات فردية، إلا أنها أصبحت تشكل مجموعة فكرية وعقائدية، أياً كانت شكل العقيدة ومرجعيتها، سواء في شكل ديني أو دنيوي. ويستشهد المؤلف بأحد الآراء وينتقده في الوقت نفسه ليبين ضعفه، لكننا نؤيد هذا الرأي إلى حدٍ كبير، دون الحكم بصحته على إطلاقه، والذي يرى أن ظاهرة الإسلام السياسي لا تشكل تواصلاً مع تراث الأمة الإسلامية، ولا تعبّر عن استمرارية تاريخية، بل مرتبطة بالحياة العربية الإسلامية المعاصرة، التي عرف فيها العرب بناء الدولة، والتغير الاجتماعي الجديد. فجمال الدين الأفغاني هو الأب الروحي لهذه الظاهرة، والتي امتدت عبر تلامذته، وعلى رأسهم محمد عبده ومحمد رشيد رضا. هؤلاء وضعوا نواة التيارات الإسلامية المعاصرة ــ التنويرية، التجديدية، المسلحة ــ عبر انتقال متواتر وصولاً إلى حسن البنا. هنا يتضح الأمر ويتراوح ما بين رد الفعل على الدول الاستعمارية، وصولاً إلى التواطؤ معها (راجع: سعيد العلوي، الإسلام السياسي ظاهرة حديثة، بحث في محاولات النهضة والحداثة).
العولمة وتفكيك المجتمع
يذكر المؤلف أنه لم يكن في مقدور قوى الهيمنة الغربية أن تنجح في إعادة تشكيل الدولة القومية وفق تطلعاتها وضبط توجهاتها، دون إضعاف الدول القومية وخلخلتها، سواء من الخارج بإجبارها تبني منظومات اقتصادية تفتت كيانها الاقتصادي المُستقل، وتدمجه في كيان عالمي أكبر، عن طريق المؤسسات المالية الدولية. أو أن تجعل هذه الخلخلة من الداخل بتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني، وخلق الدور الأكبر لرجال المال والأعمال، وتبني شعارات زائفة كتحرير الفئات الاجتماعية، كالمرأة والأقليات، ودعم ما يُسمى بالتحول الديمقراطي في هذه الدول. للمؤلف الحق في ما ذكر، ولكن التساؤل يدور هنا حول دور أنظمة الحكم في مثل هذه الدول ــ الدول العربية خاصة ــ والتي لا تستند في وجودها إلى إرادة شعبية حقيقية، بل مدعومة بالكامل من الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة! لوجود نماذج أخرى حاولت الإفلات من فخ تنميط العالم هذا، وعلى أقل تقدير لم تنساق خلفه مسلوبة الإرادة.
نسق التنميط الثقافي
يُشير المؤلف إلى خطر التنميط الثقافي، وتبني النموذج الأوحد قسراً، والمتمثل في الإزاحة الدائمة للحضارات والأعراف التقليدية لصالح الحضارة الغربية. ووفق المقولة المُتهافتة لصراع الحضارات، والتي اختصرها «صمويل هتنغتون» في الأديان، وبالتالي تصبح النزاعات الاقتصادية والاجتماعية وأشكال السلطة تدور حول الدين، ليصبح بديلاً هنها في النهاية، وتصبح سِمة هذا العصر مُتمثلة في «الحروب الدينية».
الأصولية الجديدة
أصبحت الأصولية الجديدة والعابرة للقومية بالأساس، تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، وثورة الاتصالات، ورغم توافقها في الأسس، إلا أنها تريد عالماً على هواها، ومخلوقات تستخدم فقط أدوات الآخر/الكافر، المنتمي لدار الحرب، مع تنصلها التام من ثقافة كانت أو بيئة أصبح اختلافها سُبّة لابد من محوها، فالأصولية الجديدة لا تحدد ثقافة أو إطاراً ثقافياً ينمو عبر ممارسات تاريخية، بل تضع في البداية قانوناً مُلزماً لكل المجتمعات، وفق وجهة نظر أحادية ومُطلقة حول مفهوم الحلال والحرام، كحلم وهمي بعودة الإسلام في صورته الأولى! هذا من ناحية كونه منهجاً نفسياً لتابعي وأعضاء هذه الجماعات، إلا أن القادة يعرفون تماماً أنهم صنيعة أجهزة غربية في المقام الأول، لكن حال التواؤم تحول إلى مواجهات دامية، في وجه هذه الأنظمة، لنعود مرّة أخرى لمقولة عضو الكونغرس الأمريكي حول الصورة الدموية!!
فأصبحت قوة التناوب ما بين النزعات القومية والدينية من جهة، في مقابل فرض النموذج الأمثل/العولمة، حرب الفعل ورد الفعل، التمسك بالجذور، سواء دينية أو قومية، في مقابل محو الذاكرة الجمعية لشعب أو لأمة ما، ما بين إسقاط سُلطة الدولة في حماية حدودها الثقافية، في مقابل نزعات ترتد إلى البداوة، لتصبح الدول ساحة كبيرة للصراع، لترسيم حدودها من جديد والسيطرة على ثرواتها، في ظل سُلطات وهمية بالأساس، كل ما تحاوله هو ترسيخ نظامها الأمني في مواجهة شعوبها، هذه الأنظمة التي ساعدت واحتمت بالقوى الكبرى، وسمحت للأصولية أن تتمدد في ظل حالة التجهيل والبطالة، واعتمدت فقط على عامل الأمن دون الممارسات الديمقراطية النابعة من طبيعة وشكل المجتمع، لتأتي اللحظة التي استفاقت فيها هذه الأنظمة على هشاشتها وتفاهتها، كما في حالة الربيع العربي، والتي سرعان ما تم الانقضاض عليها، بإعادة إنتاج الأنظمة نفسها، ومساعدة القوى الكبرى أيضاً، وهي الحالة الراهنة التي تحياها الدول العربية التي تنفست في لحظة مُختلسَة من التاريخ لم تدم ولن تُنسى.
أحمد دراج: «ثلاثية تفكيك المجتمعات المعاصرة …
العولمة، التدين، الإرهاب»
الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015
135 صفحة
محمد عبد الرحيم