أعمال التشكيلية البحرينية كادي مطر: ألوان تتمدد بسلام وتستجمع النساء والعواطف والفصول
[wpcc-script type=”cc46ac623e12b895b1e67194-text/javascript”]
أحياناً تشعر وكأنك جزء مما يحيط بك لا أكثر، تفقد شخصيتك وتفاصيلك الحميمة وتتماهى مع الأشياء الأخرى، تضيع ملامحك هنا، كأن تتلوّن كعظاءة بلون الجدار أو تتحد معه لتكوّن ركناً أساسياً ثابتاً بعيداً عن التبدلات والتحولات التي تلاحق الآخرين من حولك بعصا تُدعى الحياة. إن لم تفهم ما أقصده تماماً، ما عليك إلا التأمل العميق في أعمال الفنانة البحرينية كادي مطر (مواليد البحرين، حصلت على إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة البحرين، عضوة في جمعية البحرين للفنون التشكيلية، شاركت في عدة معارض جماعية). فأعمال مطر في أغلبها تجنح نحو تماهي الشخوص في بعض جوانبهم مع محيطهم، وكأنه رفض مبطن للمسالمة والتأقلم الزائد عن الحد الطبيعي، دعوة لأن نقول «لا» لن نصبح لوحةً على الجدار، ولن نلوّن وجوهنا بلونه كما فعلت بعض بطلات وأبطال لوحات الفنانة.
العمود الفقري لأعمال مطر هو رسم الشخوص، في العديد من اللوحات يختزلون بالبورتريه، الوجه الذي يستجمع تفاصيل حياة كاملة، فطرقاتنا تختبئ مع أحلامنا في لمعة العين، وكل ما قلنا من كلام وما سكتنا عنه مرسوم ضمن تلك الشفاه.
وفي أعمال أخرى تطل الأجساد بملل مفضوح للغاية، جلسات مسترخية، لا طاقة لها على القيام ولا الحركة. يدٌ بكل خمولٍ وكسل تستند على الطاولة، تحاول جاهدةً أن تحمل رأساً مخافة أن يسقط وتتبعثر الأفكار أرضاً مع الذكريات والأحلام. الملامح هنا تضيع أحياناً، تفقد أهميتها وتصبح ثانوية نوعاً ما أمام حضور الجسد، فالوجوه الآن لون ضبابي فقط، لا عينان ولا فم ولا أي شيء يشي بالحياة.
النساء هن الأكثر حضوراً في عوالم مطر، هذا إن لم نقل أنهن صاحبات الحضور المطلق في الأعمال، فعناصر اللوحات مهما تنوعت تتعلق بالنساء بشكلٍ أو بآخر: النساء عندها متشابهات، ربما هنّ واحدة، وربما الواحدة هي تلك الكثرة. يظهرن مع أكسسواراتهن وتفاصيلهن: زهور، دمى، كؤوس شاي، أو رجل!
فالرجل هنا مرتبط بوجود المرأة أو موجود من أجلها، ليمسك يدها، ليجلس جانبها فتظهر الصورة جميلة ـ كل اللقطات المتخذة للرسم مناسبة جداً لتكون صوراً فوتوغرافية ـ أو ليقطف لها الورود ويشاركها قهوتها الصباحية. هنا هو متممٌ للصورة المثالية، مع أن وجوده في بعض الأعمال يحمل بؤساً وحزناً وألماً حتى، أليس هذا صحيحاً في الواقع أيضاً؟
أعمال مطر بسيطةٌ للغاية بمكوناتها وعناصرها إلا أنها غنية بشحنةٍ دسمة من المشاعر والأحاسيس الحقيقية، فلوحة صادقة من لوحاتها تفضح ببساطة زيف الواقع من حولها. تلك المشاعر تشحن كل جزء من اللوحة بكمّ كبير من الحكايات التي تظهر بوضوحٍ أحياناً وتختبئ أحيانا أخرى عن عين المتلقي الذي يسحب نظره سريعاً عن العمل. تقول كادي: أعتمد كثيراً على الشعور والعاطفة في اللوحة، أشعر بمفارقة كبيرة بين طبيعة الإنسان وما آل إليه في ظل متغيرات الحياة والزمن وبين ما هو زائف ومصطنع وما هو حقيقي في العالم وفي العلاقات الإنسانية. كل ما هو حولنا، هل هو حقيقي أم متخيل؟ أسئلة لا تخصني وحدي». المرأة والرجل غادرا بعض اللوحات وتركا مساحةً للطبيعة الصامتة لتنطق بما عجزوا هم عن قوله: إناء للزهور، أكواب، أو كرسي بما يحمل على متنه من تأويلات. وعن استخدامه في لوحاتها ذكرت مطر في أحد حواراتها: «الكرسي في لوحاتي اختزال لحالات وانفعالات متنوعة بعضها بسيط وآخر عميق، عمدت فيها لإعادة تشكيل الكرسي بأفكار ربما كانت متناقضة أو مبهمة أو تعكس طبقات المجتمع أو يعبّرعن شخصيات مختلفة تمثل الذات وربما أبعد من ذلك بما تحمل كل لوحة من إيحاء». تلك العناصر الخرساء تتكلم بين يدي مطر فتطلّ مشرقة ونابضة بالحياة، كيف لا وألوان الفنانة تجمع كل الفصول على ضفاف أعمالها، من خُضرة الربيع وألوان أزهاره الطازجة، وإشراق الصيف ونضوجه، واصفرار الخريف، وصولاً إلى شحوب الشتاء وصقيعه اللوني. كلّ هذه الألوان بل أكثر منها تتمدد بسلامٍ في اللوحة، مع أنه من المفترض أن تخلق كثرة الألوان جواً ديناميكياً مليئاً بالحركة، إلا أن أعمال مطر غالباً ما تجنح نحو السكينة والهدوء حتى مع الألوان الحارة والتي تخلق توتراً نفسياً في بعض الأحيان.
منشأ هذه السكينة ربما يعود إلى طريقة التلوين التي تمنح العمل ضبابيةً تميّزه وكأنه منظرٌ صباحي سينقشع ضبابه بعد قليل، كذلك تدرج الألوان، فلا لون مصمتٌ وجامد هنا، فاللون يصعد ويهبط وفق إيقاع معيّن تحدده مطر من اللون الغامق إلى اللون الفاتح وبالعكس وبشكل دائري أو انتقالٍ مركزي، فلا قاعدة ثابتة في الفن. وبعد أن ينهك اللون بانتقالاته، يتمدد في حضن لونٍ آخر يندمجان معاً في مساحة صغيرة لتبداً رحلة اللون الجديد في طرقٍ أخرى تسير نحو الحلم الذي تسعى مطر إلى تجسيده عبر شخوصها التعبيرية وخلفياتها المبهمة الممعنة في الغموض الذي يخلق حالة شعريّة صرفة. كيف لا يكون ذلك ومطر كتبت خواطر نثرية وشعراً عمودياً وترجمت بعض النصوص الإنكليزية للعربية.
أذكر دوماً قول فرانشيسكو غويا: «يتحدث الأساتذة دائما عن الخطوط والألوان، ولكني لا أرى في الطبيعة لا خطوطا ولا ألوانَا، وإنما أرى أضواءً وظلالا فحسب!». تلك العبارة هي كلمة السر في أعمال غويا والتي ترجمها في لوحاته حرفيا، وذكرتها الآن لأنها متجسدة في أعمال مطر، حيث تغيب الخطوط بشكل شبه تام ويترك للظل والنور تحديد المساحات التي من المفترض على اللون أن يفترشها.
تحاول مطر من خلال أعمالها أن يكون لفكرتها صوت، تبدأ بتجسيده تدريجياً، تتأمل خطوط شخصيتها الأولى وهي تطل بملامحها بأبهى حلة، تقول ما تشاء غير عابئة بالصور النمطيّة المملة دون أن تتوقف في سعيها إلى الكمال الذي لم نستطع أن نصله إنسانياً، فلربما مع مطر نطاله ذات مرة، ونغفو قليلاً تحت جناحه الملوّن.
بسمة شيخو