أعمال التشكيلي السوري خالد بركة: فنّ مفاهيمي يبحث عن عيون جديدة للعالم

لطالما كانت الأفكار هواجس تحلّق في سماوات الأعمال الفنية محاولةً التسلّل إلى العالم الداخلي للمتلقي، ولطالما كانت الجندي المجهول والعامل خلف الستائر والكاميرات. وككل المهمشين كان لا بد لها من ثورة تحملها إلى ما تحت الأضواء، لنقابلها وجهاً لوجه كما في أعمال الفنان السوري خالد بركة (مواليد ريف دمشق1976) حيث نجد الأفكار وكأنها غادرت عقله ببزة رسمية تارةً أو سترة رياضية أخرى، ارتدت ما يناسب ظهورها العلني وراحت تتجوّل في الشوارع أو في صالات العرض.

أعمال التشكيلي السوري خالد بركة: فنّ مفاهيمي يبحث عن عيون جديدة للعالم

[wpcc-script type=”cc66147ede91dd3d2182e5e8-text/javascript”]

 لطالما كانت الأفكار هواجس تحلّق في سماوات الأعمال الفنية محاولةً التسلّل إلى العالم الداخلي للمتلقي، ولطالما كانت الجندي المجهول والعامل خلف الستائر والكاميرات. وككل المهمشين كان لا بد لها من ثورة تحملها إلى ما تحت الأضواء، لنقابلها وجهاً لوجه كما في أعمال الفنان السوري خالد بركة (مواليد ريف دمشق1976) حيث نجد الأفكار وكأنها غادرت عقله ببزة رسمية تارةً أو سترة رياضية أخرى، ارتدت ما يناسب ظهورها العلني وراحت تتجوّل في الشوارع أو في صالات العرض.
بدأ بركة ممارساته الفنية في مجال الرسم وبرع فيه بشهادة كبار الفنانين السوريين أمثال نذير نبعة، وأسعد عرابي، ومروان قصاب باشي، فكان يستحضر أشخاصاً للوحاته ويجردهم من معالمهم، فنجد الرأس – وهو محور عدد كبير من الأعمال – يمكنه أن يتبنى أي جنسٍ ويحمل أيّ هويّة، وكذلك الأجساد التي قام خالد بتكفينها بأحباره بشكلٍ كامل كمومياءات ملوّنة بقتامة، تصوّر الفنان الذي كان يرسم نفسه، وتشخّص حالة التقييد التي كان يعيشها، أو يلفّ الأجساد بحبالٍ لونيّة لتصبح شبيهةً بالشرنقة، لعلّه انتظر يوماً أن تخرج فراشاتٌ من لوحاته؛ وربما لأنها لم تخرج من اللوحات تركها تخرج من خياله مباشرةً. فبعد وصوله إلى أوروبا ودراسته للفنون المعاصرة، بدأ في ممارسة الفن المفاهيمي ليحمل إلينا عالماً متكاملاً بالصورة التي يراها، والتي رغب أن يعيرنا عيونه لنرى بها التفاصيل من زاويته، مع الحرص الشديد على ألا نخسر شيئاً من تلك التفاصيل أثناء الانتقال من رؤيتنا إلى رؤيته، باعتبار أن لغاتنا البصرية مختلفة وتحليلاتنا لها تحمل وجوهاً كثيرة، لذا ربما يختلف المعنى أحياناً، كما يحدث أثناء الترجمة مثلاً والتي يعتبرها البعض خيانة للنص الأصلي.
وقد أثبت بركة ذلك من خلال مشروعه Syngamy  (مصطلح كيميائي يعني التفاعل بين مادتين غريبتين) والذي قام من خلاله بترجمة قصة  بعنوان «ألمنيوم» للروائي اللبناني حسن داوود من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، لخمس مرات عند خمس تراجم محلفة، وراقب التبدلات في مفاصل القصة؛ ووضع مفتاح حرف السين (س،s ) وهو المفتاح الوحيد المشترك صوتياً ما بين اللغتين على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، فكان ذاك المفتاح بمثابة مغناطيس جذب الـ (s) من الكلمات وتركها تطوف حوله بشكلٍ لولبيّ وكأن المفتاح بسواده الرزين كعبةُ هذا النص.
إن التقاء عالم بركة الداخلي مع محيطه الجديد أحدث لديه صدمة فنية انعكست على أعماله، فمشروع الترجمة ليس الهوة الوحيدة بين ثقافتين، فها هي الأمور تسير بشكلٍ معاكس شأنها شأن الكتابة (يمين – يسار). ويصوّر خالد هذا الانعكاس في مشروعه (الساعة 60 دقيقة والعكس صحيح) عبر ترقيم الساعة من اليسار لليمين فلا يصح الوقت هنا إلا في المرآة، ونحن كذلك علينا أن نكون كما نحن ونقف أمام المرآة لنشبه الآخر!
فالاختلاف الجميل غير مستساغٍ هناك في محجّات اللجوء والهجرة، فليست كل التفاصيل المميزة مقبولة، فنحن أمام سلطة انتقائية تحمل من ثقافتنا وإرثنا ما تشاء وترمي بنا على أعتاب الضواحي والمخيمات، وقد حمل بركة هذه الصرخة ووضعها أمام أذن كل من زاره، فقام بلف عدد من شطائر الفلافل (وقد اختار الفلافل بعد أن هاجرت بدورها وأصبحت كلمة دنماركية في القاموس الدنماركي) بصور المهاجرين الذين يسكنون أطراف المدن، وترك الحضور أمام أسئلة تنخر فكرهم: هل يمزقون صور المهاجرين ليأكلوا الفلافل، أم يتركونها؟ هل يرمون الصور ويتلذذون بالفلافل وحسب؟ وبعد انتهاء الشطائر المصطفة فوق أربع طاولات حمراء متباعدة تصنع العلم الدنماركي الذي يظهر عبر الإسقاط  الضوئي بجوار صور لعائلات مهاجرة منذ الحروب العالمية، من خلفيات مختلفة تعيش في ضواحي المدن، التُقطت الصور بشكلٍ نمطي عن العائلة السعيدة، أمام بيتٍ دنماركي تقليدي، البيت نفسه والكلب نفسه بجانبهم أيضاً وهم المتغيرون فقط!
مثل هذه الأفكار التي تنوح في بال خالد بركة وتمدّ أصابعها لتفقأ عين الزيف في كلّ لحظة ما كانت لتتركه ينعم بالاستقرار، بل هي تعبث بكينونات روحه قبل أن تمتد للعالم الخارجي، وخير ما يعبر عن ذلك مشروع(0 n the Ropes ) والذي قام بركة من خلاله برفع كل أثاث الأستديو الذي يقيم فيه بواسطة خيوط معلّقة بالسقف، وتركه يتأرجح كصدى أغنية قديمة عالقة في أذنه.
خلال هذا المشروع نقل إلى الزائرين حالة عدم الاستقرار التي يعيشها ليكون المكان مرآةً لروحه، منحت المشاهدين أجنحة ليرتفعوا مع الأثاث دون خيوط، ولأول مرة يستطيع أحدهم استدراج دوار البحر ليصيب بعض الزوّار عبر أرجحة بسيطة للأثاث وتركه يدنو ويبتعد على مهل، كما جلب أشعة الشمس أيضاً باعتبارها شريكة أساسية في مشروعه المسمى «شفافية» فمن خلالها تم جمع متناقضات غريبة كان كل منها ينام مطمئناً على الجانب الآخر من الورقة، قبل أن يقابلوا الشمس لتفضح علاقاتهم السريّة. فها هو تمثال الحرية يرفع شعلته نخباً لاحتجاجات في مكان بعيد، وتلك عجوزٌ تنتظر وتصلي والجندي على الطرف الآخر من الورقة، لم يجمعها به القدر بل بركة، وهناك مانديلا يحيي عقارب الساعة وكأنها رسالة تخبرنا أن لكل رجل وقته، وكذلك أوباما الذي لم يخطر على باله أن كادراً سيجمعه مع فتاة مسلمة، وذاك الرجل الشيخ الذي قُسمت تعابير وجهه ومعاناته إلى أربعة كوادر.
وضع الفنان إصبعه في عين المجتمع الأوروبي، وحاول تأطير زاوية من الممارسات الأمريكية العالمية، فنجد أنه في مشروعه (Great Hits) سلّط الضوء على إجرام إسرائيل وبطريقةٍ جديدة ستجعل الصوت مسموعاً والنظر مشدوهاً. فقد صوّر التفسير الحرفي لأسماء العمليات العسكرية والتي تختارها إسرائيل غالباً بشكلٍ شاعري مستوحى من أفلام أو روايات. من ضمن الأعمال واحد بعنوان «الساق الخشبية» نقلها بكل بساطة عبر ساقٍ خشبية مراعياً سيرتها الذاتية، وهناك عملية «حقل من الأشواك» وكانت عند بركة إكليلاً من الشوك يرمز عادةً إلى عذاب المسيح وآلامه، وعملية «فارس الليلة» تصور دمية صغيرة أضعف من أن يُسمع لها صوت تصرخ وخلفها ليل مسال على الجدار.
وباعتبار أن بركة فنان سوري لم يستطع أن يكون متفرجاً على الأحداث بعد أن تعوّد صناعتها ولو بشكلٍ مصغر وعلى نطاق ضيق، فقد قام في مشروعه (بخصوص آلام الآخرين) بتهريب نعش من مدينة درعا، وتصوير رحلته الأخيرة وهو ينقل راكبه من ضفةٍ إلى أخرى بين الأرض والبرزخ. تبدأ الرحلة من باب المسجد وتنتهي عند القبر. لم يعرف ذاك النعش أن للجمادات حظوظاً أيضاً، وبأنه بعد شُرّف بحمل 135 من الشهداء سيكون عرشاً في بلدٍ بعيد يليق بهم. قطع الأخشاب الفائضة عن مستلزمات العرش الصغير عُرضت إكراماً لهيبة من سكنه، وفي جوار ذاك العرش في هذا المعرض خمس لوحات غرافيك، توحي بادئ الأمر أنها مجرد أعمال تجريدية تنتمي إلى الحقبة التعبيرية الأمريكية، تعتمد على التناقض بين الأبيض والأسود، لنكتشف فيما بعد أن فجوة التناقض أوسع، وهي بين حياة وموت.
في مشروع «الصور الموحدّة» قام بركة بتقشير الطبقة الملوّنة من الصور الفوتوغرافية وكأنه يسلخ جلد الأطفال بعد موتهم، وتمّ تغييب المعالم لتعميم الضحية إذا جاز التعبير، ليرى كلٌّ منها أحداً يخصه فيها، وكأن الصورة ستصبح أقرب إلى لعبة الـ»بزل» في سخريةٍ واضحة من الإعلام الغربي الذي يصرّ على عدم عرض صور ضحايانا رأفةً بحساسية الناس هناك.
وعلى الرغم من عمل خالد بركة في مجال الفن المعاصر، إلا أن ذلك لم يمحِ مكانة اللوحة داخله، فقام بشدّ وسادة لتكون لوحة مختلفة – دموع على وسادة – الكحل لا يرسم فقط على قماش الوسائد بل يحكي قصصاً! وكذلك قرر إعادة الحبل السريّ بينه وبين اللوحات من خلال رسمه لوحةً واحدة خلال حياته، كلما انتهى منها عاد ليرسم فوقها من جديد، وكأنّ هذه اللوحة هو نفسه بشكلٍ آخر، تكبر وتتغير معه، وسينتهي حضورها بوفاته؛ لتكون مع باقي أعماله شربة ماء لقضايا عالقة في حلق المجتمع، ضوءاً ينير الزوايا المعتمة في حياته وحياتنا، وإشارة استفهامٍ ضخمة تستند عليها الأسئلة، وعيون جديدة لهذا العالم.

بسمة شيخو 

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *