أعمال الفنان السوري علي علي: طفولةٌ تسكن مدناً منسية وكائنات تحمل أساطيرها

عالم ملون بكلّ ما تتنفسه الحياة من ألوان، فاقعة وقوية أو صافية وهادئة، عالمٌ كهذا لا يليق بالأطفال وحسب، فها نحن نلجه بكامل عقلنا واتزاننا وبما بقي من براءتنا، من خلال أعمال الفنان السوري علي علي، وكأننا ندخل عالم «أليس في بلاد العجائب» نبحث عن بيضة ناطقة، أرانب بثيابٍ رسمية. ولو لم يكن لويس كارل، مؤلف «أليس في بلاد العجائب»، موغلاً في القدم-1865- لجزمت بأنه استوحى بلاده الخيالية من بعض لوحات علي، أو ربما شاهد ما يشبهها حينها، مَن يدري!

أعمال الفنان السوري علي علي: طفولةٌ تسكن مدناً منسية وكائنات تحمل أساطيرها

[wpcc-script type=”b11399f56e9bf32898e1dffb-text/javascript”]

 عالم ملون بكلّ ما تتنفسه الحياة من ألوان، فاقعة وقوية أو صافية وهادئة، عالمٌ كهذا لا يليق بالأطفال وحسب، فها نحن نلجه بكامل عقلنا واتزاننا وبما بقي من براءتنا، من خلال أعمال الفنان السوري علي علي، وكأننا ندخل عالم «أليس في بلاد العجائب» نبحث عن بيضة ناطقة، أرانب بثيابٍ رسمية. ولو لم يكن لويس كارل، مؤلف «أليس في بلاد العجائب»، موغلاً في القدم-1865- لجزمت بأنه استوحى بلاده الخيالية من بعض لوحات علي، أو ربما شاهد ما يشبهها حينها، مَن يدري!
الفنان من مواليد مدينة الحسكة عام 1974، خريج كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق 1998، مقيم في اسبانيا، حصل على ماجستير في فن الحفر والطباعة من المركز العالمي لفن الطباعة والحفر المعاصر»» CIEC حيث يعمل حالياً أستاذاً لتقنية الطباعة. نال العديد من الجوائز، وأقام الكثير من المعارض في بلدان متنوعة، سوريا، فرنسا، اسبانيا، الارجنتين، المكسيك، المانيا، أمريكا، صربيا، الأردن… أعماله مقتناة كذلك حول العالم، حيث وصل صدى صوته إلى أغلب البلاد العربية بالإضافة إلى اليابان، بنغلادش، تايوان، سنغافورا، وفي أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية. المعارض حملت أسماء مثل «المدن المنسية»و»فضاءات طفولية»و»عنف الفراشة»و»نسائم شرقية».
للوهلة الأولى يلفتنا في لوحات علي الجمال السطحي للأعمال والذي يستدعينا بصرياً، وبمعنى أدق حرفيّة الصنعة التي تم بها تنفيذ العمل. لكن اللوحة هنا كالرمال المتحركة تسحبنا رويداً رويداً وتكشف لنا عن مفاتنها في التفصيلات والزخارف الدقيقة التي تقود بعض أجزاء اللوحة لتكون جزءاً من منمنمة، ومن ثم تغرقنا في أفق الفكرة العميق المتمدد تحت الجماليات المرئية.
أبطال اللوحات حاضرون بقوة في مساحات واسعة وملامح بينة ودقيقة، العيون واسعة ومائلة ربما أثقلتها المناظر التي تسكنها! تضاريس الأجساد منحوتة بدقة عالية وكأنها ثلاثية الأبعاد، والوجوه كأنها تجميعٌ لقصص وذكريات في أغلبها، ليست بلونٍ واحد صاف بل هي ألوانٌ كثيرة محتشدة في مساحات ضيقة تحمل توتراً وديناميكيةً لا تغيب عن الكثير من الأعمال التي تحمل مزيج الكولاج  في كل أنحائها. هي خرائط ملوّنة تكسو الوجوه، الأرض دوماً تُختزل هناك في وجه طفل أو امرأة ما.
تقنية «السفوماتو» أي الرسم عبر تمازج الألوان، تتحول عند علي إلى اقناصاتٌ جمالية واقعية، يُظهر من خلالها روعة المدن البعيدة، وأحياناً أخرى يصوّر الحروب ودخانها ونيرانها.
اللوحات محمّلة بالكثير من الرموز لأحلامٍ مكبوتة في اللاوعي، أو صاحبة حضور في أساطير قديمة؛ فهنا الثور يمدّ رأسه في بعض الأعمال بما يحمل على ظهره وما يختصر بقرنيه من ميثولوجيا شرقية. الطير مع المرأة يأكل من يدها، يحوم حولها، وتارةً ينقر رأسها، فسّر يوسف هذا المنام مرةً، بأنه الموت! وليس بعيداً عنه هي الحياة، تأتي بهيئة بالونات ملوّنة ترفع مدينةً تركب دراجة، مع حصانٍ وجمل، والطفل يمسك بالونات لابد أنه سيحلق بهم بعد قليل.
الحصان الهزاز ظاهرٌ بأكثر من عمل وكأنه يحملنا مع من يركبه في اللوحات، ويرمينا للغد قليلاً ويعود بنا للماضي، يتأرجح فوق رأس أحدهم. الأمر مخيفٌ حقاً، وإن لم تصدقوا ذلك راقبوا وجوه فرسان تلك الأحصنة، والمحوا الخوف في عيونها، وحللوا حركة أجسادها سيكولوجياً!
كل هذه الأحداث والتفاصيل تلتف حول المحور الأساسي الذي يحبسها ضمن إطارين، زمني ومكاني، منسيين. إنها مدن علي، التي لا تشبه غيرها من المدن: بيوت تكسو الجبال، تتوزع عليها كنوتات موسيقية ترّن ألوانها في آذاننا، وجسور تصل بين تلك الجبال، وسلالم طويلة توصلنا للمدن العائمة وسط البحار. هي مدنٌ منسيةٌ فعلاً، منسية من قِبل الحروب والموت والدمار، ومن المؤكد أن الفنان علي يصلّي لأن تُنسى مدن بلاده كتلك المدن، وتسرق لحظة سكينة فاقعة الحضور في حضن هذا الموت. مدن علي تحتفظ ببهاء المدن وبكارتها، في بالي تشبه بغداد في قصة علاء الدين، أو ربما هو حدس من طفولتي يقول ذلك.
بعد تأملٍ مركز نحس بأن الهدف الأوضح من أعمال علي هو إعادة تركيب الواقع بجزئياته المتنوعة، وخلقه من جديد عبر رؤيا جمالية تكشف المستور وكأنها ترفع الحجاب عن الجنة، أو عن عالمٍ آخر. تصوّر الحرب، والموت، والدمار، وتزلزل الأركان افتراضياً بتصويرها عنصراً ثانوياً ينمو حول براءة طفل أو أم.
الحياة عند علي تُخلق من الألوان النابضة بالفرح والمشرقة كشموس صغيرةٍ مكتظة ضمن لوحاته، الأخضر والأزرق هما المهيمنان على الكثير من اللوحات، كيف لا وهو يخلق عالماً لوحده، يحتاج أرضاً و سماءً طبعاً. الألوان الأخرى لم تغب بل هي موجودة دوماً ولو بلطخاتٍ صغيرة على بعض الوجوه وبعض الزوايا ، تتوزع بعفوية في لوحاته المنفذة بأسلوب البدائية الفطرية أو أسلوب رسوم الأطفال والتي تكسب الأعمال مصداقية غريبة تنبع من براءة الطفولة بحد ذاتها، ومن ذكرياتنا المرتبطة بتلك الرسوم، وتميل بالأعمال لتنحو صوب التعبيرية، وتارةً أخرى تتمدد باتزان متقن ضمن الأشكال التي رسمها الفنان بأسلوب الواقعية أو القريب منها، أحياناً تتنشر كرذاذ غيمة فنراها تسيل على طول اللوحة أو تتوزع بطريقة التنقيط، وأخرى تتكدس كحصى ملوّنة، أو تملأ لوحدها سطوحاً واسعة.
الخطوط غائبة في اللوحات، ألوان فقط تحدد الضوء والنور، وترسم الشكل والظل، تعطي اللوحة حركة، وتكون أمينةً بنقل الواقع الخالي من الأشكال والأجسام المؤطرة بخطوط تشبه قيوداً تحيط بالألوان التي تتوزع بكثافات ودرجات متنوعة، لتتوازن مع الأشكال تارة ومع المساحات اللونية تارة أخرى.
الأعمال منفذة بتقنيات مختلفة تتنوع ما بين الزيتي، الأكريليك، الأكواريل، الأحبار، الأصبغة وتقنيات الكولاج والرمل ومواد نافرة، بالإضافة لأعمال كثيرة تعتمد على الاختصاص الأساسي للفنان علي، من تقنيات فن الحفر والطباعة (طباعة معدنية، طباعة حجرية، طباعة خشبية، طباعة شاشة حريرية، وطباعة بتقنية متطورة ـ ديجيتال). كل هذه الطرق بين يدي علي يفرشها أمامه ويمسك بأيدينا لنعبر معه نحو مدن منسية عابقة بنسائم شرقية، حيث الفضاءات الطفولية تنام هناك بسكينة تخاف حتى من عنف فراشة.
 

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *