أعمال الفنان المصري عبد الرزاق عكاشة: صدى قصص قديمة في قيعان المدن والأرياف
[wpcc-script type=”92d41224a94b7d5b7ef1ce9d-text/javascript”]
لم أدخل يوماً هرماً أو مقبرةً فرعونية، لكن رهبة دخولها كانت جليّة في نفسي، ربما تسللت من البرامج الوثائقية أو من بعض الأفلام التاريخيّة. عادت تلك الرهبة بعد أن شاهدتُ أعمالاً قديمة نسبياً للفنان المصري عبد الرزاق عكاشة، حيث تتكدس الأجساد بالقرب من بعضها البعض، ملفّحةً بالقماش، الوجوه فقط ظاهرة تمحو غربة الأنسجة وتذكرنا بالأشخاص المختبئين تحت الأكفان الملوّنة المعدّة للأحياء. بعض تلك الوجوه تذكرنا بشخوص الفنان السوري الراحل فاتح المدرس، كيف لا والمدرس أيضاً حمل التراث بأيقوناته واختزله في لوحاته، وكذلك فعل عكاشة الذي استطاع من خلال ريشته وفكره الصافي أن يحمل مصر وحضاراتها وبساطتها على ظهره ويجوب بها العالم. فهو أول فنان عربي يصبح عضواً في مجلس إدارة «صالون الخريف الأدبي» الذي قدم رينوار وبيكاسو وماتيس، وقد ترّأس الجناح العربي منذ ما يزيد عن خمس سنوات. وذلك لم يكن على سبيل الصدفة، فقد عمل عكاشة بجد، وهويته المصريّة كانت بصمة في كلّ أعماله، وربما تكون محليته هي من فتحت له باباً للعالمية. ألم يكن نجيب محفوظ كذلك من زاوية ما؟!
عكاشة يرسم وكأنه ذاك الفلاح ابن الصعيد الذي لم يغادر قريته والذي يعيش إرث أجداده في نفسه ونَفسه، عن ذلك يقول: «حين تتذكر أن خلفك الأندلس وحضارات كبيرة مرّت في المنطقة العربية فهذا يجعلك تنهض بنفسك، تثقّف نفسك وتصلحها بالقراءة وتطوير موهبتك وتجهيز نفسك للحياة. كنت مهدداً في الحياة الباريسية أن أتخلى عن حياتي الإبداعية ولذلك كان التحدي كبيراً، وفكرت أن يكون الفن وسيلة انتصار بالنسبة لي من خلالها أستعيد الأجواء الحميمية لمصر التي تسكنني وللثقافة العربية التي لم أتخل عنها لتكون وقاية لي، حتى لا أتوه في خضم الحياة ولا يستنزفني اليومي ولا تصطادني أنوار باريس. لذلك أنا أستعيد الماضي وطفولتي في أزقة قريتي المصرية لتكون قبعة على رأسي في الكِبر إلى أن أهرم، والرابط بين طفولتي وكهولتي وشيخوختي هو المشاعر الإنسانية التي تجمع فقراء الشعوب وترتسم على ملامح المهمّشين والمنسيّين».
وإذا سرحنا ببعض عناوين لوحات عبد الرزاق نستطيع أن نتخيل مظهراً أو حدثاً معيناً يتصل ببيئة عكاشة، وقبل أن تبدأ بتخيله يسعفك بلوحة تختزل بشخوصها وألوانها كلّ ما يمكن أن يدور في خّلدك. فمثلاً لوحة «نساء تحت شجرة التوت» تحكي لنا حكايتها ثلاث نسوة، شمسان وسماء ـ امرأتان بالأصفر الفاقع، والأخيرة بالأزرق الصافي ـ يحملن قلائد على صدورهن كما يتذكرهن عكاشة؛ الخلفية هنا لطخاتٌ لونيّة تحمل داخلها ثمار التوت. أما لوحة «إلى صلاة العيد»، فهي تملك الألوان نفسها تقريباً، تتناوب الأوقات داخلها في خيال عكاشة فيوّزع الليل مع النهار، الأزرق القاتم مع الأصفر والبيج، كل شخصٍ بلون، من الممكن أن يكون رمزاً لشخصيته ونقائه، وأشخاص بلونين في عالمنا نحن نقول عنهم بوجهين!
الألوان وحدها من ترسم الأشكال، فلا خطوط تؤطرها وتحدّ من حرية حركتها وعفويتها. الألوان تتمازج وتتدرج في بعض الزوايا لترسم زخرفاً أو نقشاً تقليدياً، وتتمدد بصفاء في زوايا أخرى. الوجوه مبهمة المعالم كلٌّ يستطيع أن يكون مكان أي أحد من المصلين ويتأمل وجهه في اللوحة، القامات شاهقة والرؤوس مرفوعة ترتجي الخير من الله، إنه العيد عند عكاشة!
تعود الذكريات بالفنان إلى مصطبة جدّه هذه المرة في لوحة «مصطبة جدي والجريدة» يظهر فيها جده بحلةٍ بيضاء هو وصحبه الستة، وفي يده جريدة لا يظهر منها إلا كلمة «الشعب». هل تسللت من تلقائها لتثور وحدها هنا، أم أنها مدروسة؟ وأرجح الخيار الثاني لأن عكاشة ملاصق لقضايا شعبه لم ينسه البعد معاناتهم. فها هو يرسم لوحة ويعنونها بـ»شهيدة الاتحادية»، لا شيء يدل على الشهادة أكثر من الدم، وقد أعلنه عكاشة باللون الأحمر وأعلنه معه ديكٌ مقطع الخطوط متوتر الحضور يقف على يمين الشهيدة ويمين اللوحة.
لوحات عكاشة خريطة تقودك حتماً إلى مصر وإلى قريته بالتحديد، وإلى الناس المهمشين هناك، فالخلفية التي ينطلق منها هي قاع المدن والشوارع الخلفية، عوالم المهمشين والمنسيين والمظلومين في الحياة كما قال في حوارٍ له؛ لاحقه هاجس الخرائط فرسم عدة أعمال على خرائط الميترو! بعض الطرقات ضاعت بألوانه، ووصلت أخرى إليها!
الألوان لدى عكاشة في أغلبها قاتمة وباهتة أحياناً كما الذكريات، إلا بعض التفاصيل التي يبرزها بألوان قوية صارخة، الظل والنور هما من أهم من يحدد توزع تدرجات الألوان أو الألوان ضمن اللوحة الواحدة. أما الأشكال التي تكّون اللوحة فنلاحظ أنها موزّعة بشكلٍ متوازنٍ تماماً حول محورٍ ثابت، اللوحة ساكنة تحمل سكينتها تلك إلى روح الناظر إليها لتقصّ له حكايتها على مهل، وكيف لا تفعل والفنان الذي رسمها روائي أيضاً لديه ثلاث روايات، ويرى عكاشة أن هناك علاقة بين الصورة في الرواية والصورة في اللوحة، والفرق أن الصورة المرسومة تتحول الألوان فيها إلى كلمات، والصورة في الرواية تتحول فيها الحروف إلى ألوان.
إذن فلنلحق كلمات عكاشة، أو لنلحق ألوانه، المهم أن نصل إلى شارع في مدينة أو قرية مصرية، ونتسكع هناك وننصت إلى قصة قديمة ما زال صدى صوتها يتردد ضمن أعماله.
بسمة شيخو