أعمال ما بعد حداثية تعكس الحس الساخر والعبثي
[wpcc-script type=”88803b02496f27dec18b3fb5-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: يأتي صالون الشباب هذا العام في دورته الـ (28) مخالفاً العديد من الدورات السابقة، من حيث أفكار الأعمال وتقنيات تنفيذها، وقد ضم ما يُقارب 200 عمل فني. وبالمقارنة وصالون السنوات السابقة، نجد روحاً جديداً لفنانين يسعون للتجديد ومحاولة كسر المألوف وما تعوّد عليه المتلقي من أعمال تقليدية أو مكرورة لأعمال وأفكار سابقة. فهناك العديد من الأصوات الشابة الواعدة في الفن التشكيل المصري، والتي تنطلق من أسس وتجارب تخص هذا الجيل وحده، في حال إلى حدٍ كبير يبدو كقطيعة وسخرية مما سبق. إلا أن المقارنة الأخرى التي لابد من حضورها هي مقارنة تجارب هؤلاء الشباب من الفنانين وبين أعمال الفنانين الكبار ــ سناً أو مكانة مُفتعلة ــ ولم تزل ذكرى «الصالون العام» قائمة، وهو الخاص بأعمال الفنانين المعرفين، والذين تخطوا تجارب الشباب ولهم جمهورهم من الأصدقاء والصحافيين والمهللين. المقارنة لم تكن في صالح كبار السن، الذين يكتفون بتكرار أعمالهم، أو النبش عن أعمال قديمة منسية، طالما ظنوا أن اسمهم وحده يكفي للقول بقيمة العمل الفني. جاءت بعض أعمال الجيل الجديد لتضعهم في مأزق حقيقي، ولتبدو أعمالهم في غاية التكلف حد السخف ــ تكلف التقنية وتقليد أعمال غربية أكل عليها الدهر ــ حالة عبثية وأعمال أشبه بالجثث المجهولة، وعن حال العبث والموت وبعض الأفكار الاجتماعية التي نعانيها اليوم جاء صالون الشباب ليُعبّر في صدق فني عما يحمله هذا الجيل من أفكار تجاه مجتمعه ونفسه في الأساس. وسنحاول استعراض نماذج لبعض الأعمال اللافتة، والتي تحمل روحاً من التجديد والتجريب، وحساً ما بعد حداثياً لا يخفى.
مراثي العائلة الكبيرة
حال الرثاء سيطر على العديد من الأعمال في شكل فني لافت وغير مباشر، الرثاء هنا تراوح ما بين الذاتية ورثاء الإنسان بشكل عام، رثاء اجتماعي وثقافي لما نمر به اليوم من أحداث وأعراف ثقيلة وصولاً إلى تكنولوجيا مقيتة تسلب الإنسان الروح، وتعيد خلقه نمطاً محمولاً في نعش، كالكثيرين ممن حوله، نموذج مفرد يدل على المجموع.
ويعد عمل الفنان صالح العنبري أكثر تعبيراً عن هذه الحالة، حيث الجسد المُمَدد فوق ما يُشبه النعش، والذين يحملونه رجال في كامل أناقتهم، رجال أصبحت رؤوسهم عبارة عن شاشات أجهزة الكمبيوتر، التي تتبادل بث الإضاءة وانقطاعها في تواتر، يسيرون بصاحب النعش في ثقة كبيرة، بينما نظرة عينه تطالع المتلقي، أعزل تماماً وميت بالحياة، بلا أدنى إرادة تُذكر، وكأنه يشارك المجموع، أو يشاركه المجموع في هذا المصير. ومن الموت بالحياة وفكرة التنميط والآلية التي فرضتها التكنولوجيا إلى رثاء العائلة، كما في عمل الفنان محمد عيد أحمد، حيث أقام احتفالاً للغائبين، من خلال لقطات فوتوغرافيا تجمع عدة شخوص، بينما الغائب منهم يتم محو تفاصيله من الصورة، مع الإبقاء على حدوده داخل الصورة. الصور قديمة بالأبيض والأسود، وتعود إلى زمن مضى، يبدو ذلك من ملابس النساء والرجال والأطفال، وبالتجوال والمرور بين الصور الضخمة، التي تقارب الجداريات، نلمح الغائب وعلاقته بالأحياء، لم يزل لجسده حدود في الصورة، على جلسته نفسها أو حركته، أو إيماءاته. حي هو في ذاكرة هؤلاء رغم رحيله. من ناحية أخرى حمل العمل حساً سردياً من خلال ترتيب الصور واختلاق إيقاع يخص ذلك الزمن وأصحابه، حكاية تتماس شخوصها مع الكثيرين، وتثير لدى المتلقي العديد من ذكريات عن أشخاص يعرفهم وقد غابوا عنه في غفلة. ومن الفقد والموت الفعلي وأثره على الآخرين، يأتي الموت المعنوي للشخصيات نفسها، كما جسده عمل الفنانة مريم عبد الرازق، بوجوه تكاد تختنق ملامحها، أكثر شبهاً بالتحنيط، وكأنهم يطلون علينا من مقابر الزجاج، مربع خشبي/كادر، من خلاله يحكون حكاياتهم المؤلمة في الحياة، عاشوا وقاسوا دون أن يجنو شيئاً يُذكر، ودون تحقيق أدنى الأمنيات، منهم مَن يبتسم سخرية في وجه المتلقي، وكأنه عرف الحقيقة والسر، قسوة بالغة تنبئ عن وحدة المصير. لينقلب الأمر وتصبح الوجوه وأصحابها هي التي تنظر النظرة الأخيرة على جموع المتلقين، الذين سيلحقون بهم، ويعرفون في ما بعد معنى السباق الهزلي للحياة. وكما البحث عن أثر تم اكتشافه يأتي عمل الفنان أحمد شعبان أبو العلا حيث يتمثل أشكال الموتى في توابيتهم، هياكل عظمية، وتصاوير أشبه بتصاوير القدماء فوق جدران المعابد، توابيت من زجاج تستعرضهم، وبعض من أدواتهم وعظامهم يتم استعراضها، شخوص لا يمثلون قداسة أو مكانة تاريخية كقدماء المصريين، شخوص عادية، وكأن الفعل التاريخي والزمن كما هو، زمن الموت. وأخيراً تأتي حالة الرثاء الاجتماعي، كما في عمل الفنانة آية محمود، رثاء الأعراف والتقاليد المستحدثة التي ضربت الشعب المصري ــ تقاليد الصحراء ــ الأمر يخص المرأة وجسدها، وتحولها من كائن حي إلى مجرد شيء، فكرة التشيؤ هنا مرهونة بفعل اجتماعي وسلطة متخوفة حتى من ظلها، لتتحول المراة إلى ما يُشبه قطعة الأثاث ــ كرسي صالون عتيق ــ هكذا حولها المجتمع وأراد لها أن تكون. الحس الساخر لا يمكن إنكاره من تفاهات العقل الذكوري وتصوراته عن المرأة ودورها، دائماً مرعوب ويريد ستر عورته، عورة تفكيره ونفسيته التي لم يجد سوى المرأة يتستر خلف احتجابها، ليبرر لنفسه دوماً أنه على صراط مستقيم يسير.
العبث والسخرية
استندت العديد من الأعمال إلى السخرية من العالم والحال العبثي الذي نعيشه، بداية من المدينة الكبيرة التي أصبحت بصوتها الصاخب أكثر المدن زحاماً وتناقضاً وعشوائية، القاهرة وعالمها المجنون، كما في عمل الفنانة «مريم لبيب»، حيث كل شيء يمكن تصوره يحدث في القاهرة، أصوات متداخلة، وسائل مواصلات متهالكة، فئات تتعارك وكأن الأرض أصبحت ساحة كبيرة للقتال، نهار قاس، وليل مخيف، جموع لا تتعرف نفسها لكثرة تشوهاتها في كل لحظة تمر بها في المدينة الأثرية العظيمة، لتصبح في النهاية هي وشخوصها أكبر معرض أثري حي. ومن الأعمال اللافتة أيضاً فكرة وتنفيذاً عمل الفنانة كاملة عبد الحميد، فمن خلال خامة الكرتون تصنع عالم المدينة، الزحام والشخوص المختنقة في وسائل المواصلات، والشبابيك التي تشبه القضبان، ورغم الحِس الساخر والوجوه الأقرب للشخصيات الكرتونية، إلا أن المأساة تتجلى في ضحكتها المتكلفة أو ما تثيره من ضحك على حالها، وهو ضحك على أنفسنا وحالنا في المقام الأول. ومن السخرية الذاتية إلى السخرية الضالة ــ السلطة ــ السخرية من ممثليها، القادة والمحاربين الجد، كما في عمل الفنانة إيمان سليم، حيث أصبحت شخصيات حكايات (ميكي ماوس) هي التي تتمثل البطولة الآن، وتصبح وجوهها منقوشة فوق عالم النياشين العسكرية، وهو بالطبع إلى واقعنا اليوم أقرب. هذا ملمح سريع لبعض الأعمال، وهناك الكثير من الأعمال الجيدة الأخرى، نذكر منها أعمال كل من الفنانين، تريز لويس، سارة قاسم، زينب حنفي، وعبد الرحمن محمود.
صالون الشباب في دورته الثامنة والعشرين
محمد عبد الرحيم