أغنية تكسر جدران الخوف
[wpcc-script type=”22338d30d606b63062358ca5-text/javascript”]
أتساءل دائما: هل أن العنف طبيعة وجدت في الإنسان منذ وجد على سطح الأرض، ومن ثم تم تهذيبه تماما كما يتم ترويض بعض الحيوانات التي أصبحت أليفة؟ وقد يبدو سؤالي غريبا على البعض.. فالإنسان تميّز عن غيره من الكائنات بالعقل، وكيف للعقل أن يكون عنيفا؟
في الحقيقة، أن العقل هو الذي أوصل الإنسان الى اختراع الوسائل الأكثر عنفا في تاريخ العالم، وقد فاقت هذه الوسائل التي أنتجها الإنسان كافة الوسائل التي صدرت عن غيره من الكائنات. فالعنف الإنساني عنف منظم وشرير بالعكس من العنف الحيواني، الذي يلبي غريزة الحيوان لإشباع نفسه بإيجاد ما يقتات عليه وللعيش.
أما الإنسان فقد أوجد العنف أحيانا لفرض القوة أو لانتهاك إنسان آخر، أو لتدمير بلد ما بأهله من أجل تقوية اقتصاد بلد آخر، أو من أجل الزحف إلى حدود جديدة، أو تلبية لمؤامرات تحيكها السياسة، ويبقى العنف المنزلي الذي يهدد الكثير من أسرنا أيضا.
الحيوان ليست لديه وسيلة لإطعام نفسه سوى قتل حيوان آخر والتهامه، أما الإنسان فقد منح عقلا بوسعه أن يبحث عن فرص لإطعام نفسه من غير قتل كائنات أخرى وبالأخص إنسان آخر مثله، ومع هذا يستمر العنف طويلا، بل يتزايد ويتنامى في أنحاء كثيرة من العالم. لأجل كل هذا على الإنسان أن يعود إلى الطبيعة التي استقى منها عقله الأول، أن يتأمل ما حوله ويبحث في السماء التي تسبح بها الطيور، ويبدأ التعلم مجددا من هناك، ومن صوت البحر، وحفيف الأشجار، أي من اللحظة الأولى للموسيقى وللألوان وللحياة.
تلك الأشياء بوسعها قهر المستحيل، والمستحيل أعني به المآل الذي آل إليه العالم اليوم. الموسيقى كما ذكرت في مقال سابق هي أحد أنجع الطرق نحو بناء إنسان يمتلك سلاما داخليا بوسعه أن يتحد مع من هم مثله، والإنسان الذي يمتلك السلام في داخله يستطيع أن يعمل على الوقوف ضد الشر مهما كان الشر أقوى، فالشر طريقه سريع لكنه قصير، على العكس من السلام الذي يبدو طريقه طويلا لكنه أيضا يستمر لوقت طويل.
وإذا نظرنا إلى الدول التي تحفل اليوم بالسلام والأمن لرأينا أن موسيقاها مزدهرة، ولرأينا دور العروض الموسيقية والأوبرا والمسارح تعج بالناس الذين ينتظرون بطاقات حجزهم، وهم يقفون أحيانا في البرد والمطر لأجل ساعة أو ساعتين من الصفاء مع الموسيقى، وبالتالي تحرير أنفسهم من الحياة الخارجية ومن الشر الذي لا بد أنهم لامسوه سواء بالعين أو بالسمع أو بأي حاسة أخرى طيلة اليوم.
منذ فترة حصلت على لقب سفير اللاعنف في استوكهولم وللقب أهمية، لا كونه لقبا أو تصنيفا، بل بوصفه وسيلة لتطبيق إيماني الشخصي بطريق اللاعنف ضمن عمل مؤسساتي يساعد المؤمنون به بعضهم بعضا ويتحدون كقوة كبيرة بوجه العنف. وقد تعرفت خلال زيارة قصيرة لبيروت إلى مؤسسي أكاديمية اللاعنف هناك، وحلمت أن تنتشر هذه الأكاديمية في كل بقاع الأرض، وبالطبع في العراق أولا وكل تلك الدول التي تعاني من مسائل العنف وقوته وشره.
أكاديمية اللاعنف همها الأول أن تخلق إنسانا مسالما يعلم غيره ويقوي حلقته بالتدريس أيضا، بحيث تصبح جماعات اللاعنف قوة حاضرة ومؤثرة في أنحاء العالم كله. الفكرة رائعة، بل هي احتياج إنساني ملح جدا، خصوصا عندما تكون الموسيقى أحد الروافد المهمة في تدريس هذه الأكاديميات. وكما عرفنا سابقا فإن ثورات كثيرة في العالم قادتها الموسيقى، وقادها الخطاب الموسيقي عبر الأغنية واللحن. واستطاعت ثورات كثيرة ألا تريق الدماء ولا تتحول إلى مجازر بسبب فهمها لمعنى الموسيقى وإدراكها التام لمعنى أن الطريق بواسطة الموسيقى مهما طال سيكون أقصر من طريق العنف بكثير.
وأقصد بالموسيقى، الخطاب المموسق، حينما تتحول أغنية إلى تيار كامل، وحينما تستطيع أغنية أن تكسر جدران الخوف والصمت فيتآلف الناس من حولها، ويشبعون رغبتهم في الصراخ بالموسيقى، فينشدون ويغنون ليعلو صوت الحق الذي يطالبون به عبر أغنية، وبتضافر الموسيقى مع الشعر، تصبح الثورات أكثر قوة وأكبر امتدادا، لأنها ستنتظم عبر قوافل من الأمل تعبر على جسر من فنون الإبداع فلا يغيب ضوء الشمس عن مسارها أبدا.
الإبداع بكافة صنوفه هو ما يجب أن يكون المادة الأولى في أكاديميات اللاعنف، أيضا علم النفس بوصفه مادة تستطيع فهم أساسات العنف في الإنسان وكافة الدراسات الاجتماعية السيكولوجية للفرد، فالمجتمعات أيضا تنمو على العنف وتتربى عليه، وبالتالي فإن إحقاق السلام فيها أصعب من تلك الأخرى التي وجدت نفسها بمواجهة العنف مرة واحدة.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه