«أفلام مُشاهدة بِدقة»… السرد السينمائي من «جريفث» حتى تقنية الديجيتال

القاهرة ـ «القدس العربي»: عن المركز القومي للترجمة في القاهرة صدر كتاب بعنوان «أفلام مُشاهدة بدِقة/ مدخل إلى تقنية السرد السينمائي» تأليف مارلين فيب، ترجمة محمد هاشم عبد السلام. ويقع في 405 صفحات من القطع الكبير.

«أفلام مُشاهدة بِدقة»… السرد السينمائي من «جريفث» حتى تقنية الديجيتال

[wpcc-script type=”29f8c159015f989fea6a9612-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: عن المركز القومي للترجمة في القاهرة صدر كتاب بعنوان «أفلام مُشاهدة بدِقة/ مدخل إلى تقنية السرد السينمائي» تأليف مارلين فيب، ترجمة محمد هاشم عبد السلام. ويقع في 405 صفحات من القطع الكبير.
يعتبر الكتاب من المؤلفات المهمة في السرد الفيلمي، من ناحية الوجهة الزمنية التي يغطيها، بداية من أعمال جريفث وزمن السينما الصامتة، وصولاً إلى تقنيات الديجيتال، مع استعراض لطرق وتطورات عمليات السرد، وكيفية إضفاء المعنى، والأفكار التي تقف وراء اختيارات المخرجين لأشكال السرد المختلفة. ومن خلال 13 فصلا تستعرض المؤلفة تجارب أهم مخرجي السينما، الذين استطاعوا تطويرها وخلق لغة خاصة بها، ومحاولة الإجابة على سؤال … كيف تحكي السينما القصص.

مولد أمة… مولد التقنيات

تشير المؤلفة بداية إلى أن فيلم جريفث «مولد أمة 1915» تضمن بطريقة محددة وواضحة أسس السرد الرئيسية التي نشاهدها في الأفلام حتى اليوم. إضافة إلى أن وجهة نظر جريفث لم تكن محايدة بالمرّة، بل كانت تحمل نغمة عنصرية واضحة. بدأ جريفث مسرحياُ فنقل «ميزانسين» المسرح إلى السينما، لكنه طوّر الأمر بالنسبة لعصره، وخلق حالة من الواقعية على أداء الممثلين، وأماكن التصوير، والإكسسوارات الخاصة بالمشهد، بحيث تعطي التأثير الدرامي المطلوب، ثم يأتي تأطير الصورة، واكتشاف التأثير للقطة الكبيرة من أهم مفردات جريفث لجذب المشاهد إلى حيث يريد ــ لم يكن جريفث أول مَن استخدم اللقطة القريبة، فقد ظهرت في أحد أفلام أديسون ــ إلا أنه اكتشف تأثيرها وتوظيفها في سرد الحكاية، ومن ثم لجأ إلى تجزئة الحدث إلى لقطات وطوّر عمليات القطع المتطابق، حتى لا يحدث خطأ عند وصل اللقطات في ما بعد، فاعتمد جريفث تقنية اللقطة السينمائية، بديلاً عن المشهد كما كان سائد وقتها. كما استخدم وسائل الانتقال كالاختفاء والظهور التدريجي، إلا أن هذه الرؤية التقدمية على المستوى التقني تتآلف مع رؤية عنصرية لشخص من الجنوب الأمريكي متعصب، حيث يصور السود كمغتصبين ومتعطشين للسلطة يضاهون بين المساواة السياسية والحرية في الامتلاك الجنسي للنساء البيضاوات، وبالتالي تصبح هزيمتهم في النهاية لها مبرر أخلاقي! فالفيلم لا يكتفي بسرد حكاية فقط، بل يعكس موقفاً أيديولوجياً لصانعه.

«بوتمكين» وتأسيس اللغة السينمائية

في عام 1925 قدم إيزنشتين المدرعة بوتمكين، ليؤسس من خلال المونتاج الجدلي حالة الواقع السينمائي، ذلك على مستوى حجم وتكوين اللقطة من حيث الإضاءة والخطوط، ثم الزمن. وفي سبيل ذلك يخرج إيزنشتين على قواعد جريفث في المونتاج السلس، ويبدأ في خلق التعارض البصري، ما مكنه من تحقيق تأثيرات سردية لم تزل قادرة على الإدهاش حتى الآن. بينما الزمن يبدو في مشهد «سلالم الأوديسا» الذي يزيد عن 5 دقائق، هنا لم يبدأ إيزنشتين بلقطة تأسيسية تكشف المكان ككل للمُشاهد، وبالتالي يعرف جغرافيته وحدوده، فأصبحت اللقطات المتعددة والطويلة بالنسبة للقطة منفردة تعبّر عن زمن ذاتي للشخصيات الهاربة من طلقات الرصاص، فالزمن هنا زمن سينمائي، والواقع الذي أراده إيزنشتين لم يكن الواقع الفعلي المُعاش، بل كان واقعا فيلميا يتم ترتيبه وإعادة إنتاجه حتى يخلق المعنى المقصود.

تجربة «المواطن كين»

لم يكن فيلم «المواطن كين» 1941 لأورسون ويلز مجرد فيلم عادي، بل كان ثورة في عملية السرد السينمائي، فلم يعد هناك الراوي العليم، الجدير بالثقة، بل عدة رواة يحاولون تفسير شخصية ومآل «كين»، هنا يصبح المُشاهد أمام تجربة وجهات النظر المتعددة من خلال سرد ينفي أي حقيقة مُحتملة، هنا يصبح الشك مبدأ، ولا توجد حقيقة، وكما جاء في نهاية الفيلم.. «ليس بوسع أي كلمة أن تشرح أو تفسر حياة إنسان». بدأ ويلز تطوير وخلق مدلول درامي لكل من اللقطة الطويلة وعمق المجال، هنا يبدو المسرح أكثر وضوحاً، وكما استشهد به أندريه بازان، فإنه المثال النموذجي للفيلم الواقعي، من حيث زمن اللقطة متزامن مع الحدث، من دون تقطيع واختصار الزمن، وبالتالي فقدان الحدث لواقعيته، إلا أن ويلز لم يستخدم هذا التكنيك إلا للوصول بحالة السرد إلى أقصى ما يمكن.
من ناحية أخرى استخدم أيضاً الأسلوب التعبيري بجوار ما يوحي بالواقع، حيث لقطات قريبة وزوايا لا تستطيع العين الإنسانية أن ترى مثلها في الطبيعة، فلم يُقيّد ويلز نفسه بأسلوب واقعي، بل استفاد من الحِس الواقعي، ومن المونتاج الجدلي/الفكري الذي ابتدعه إيزنشتين، من خلال اللقطات المتبادلة والتعبيرية، التي لا تمت للواقع. هذا المزج بين الواقعي والتعبيري نراه أيضاً من خلال سرد الحكاية.. فالفيلم الوثائقي في البداية، الذي يستعرض حياة «تشارلز فوستر كين»، هذا التعليق المُحايد، الذي لا يقدم إلا معلومات سطحية عن الرجل ــ استخدام أسلوب واقعي لن يُخبر بشيء ــ مقابل شكل التحقيق الفيلمي من خلال عدة شخصيات تتحدث عن كين، هنا يأتي الأسلوب التعبيري ليوضح بعض المعلومات، يؤكد حقائق من وجهة نظر أصحابها، تنفيها تأكيدات الشخصيات الاخرى، أين الحقيقة؟! فالمعرفة قاصرة مهما حدث، ونلاحظ بداية الدخول إلى عالم كين/قصر زانادو، واللوحة على واجهته مكتوب عليها «ممنوع التعدي» وهي اللوحة التي جاءت في ختام الفيلم، فرغم كل ما حدث، ورغم تشريح حياة الرجل بعد موته، هناك أشياء لا يمكن الوصول إليها، وبالتالي الثقة في معرفة كل شيء.

الواقعية الجديدة

على الرغم من عدم إمكان حصر الواقعية الجديدة وفقاً لأسلوب واحد أو ثيمات محددة، إلا أن الاتفاق دار حول أصولها وسماتها الأساسية، فقد انتهت الحرب العالمية الثانية، وجاء عدد من المخرجين ينتمي معظمهم إلى اليسار، وكانوا في حالة غضب من الأفلام في عهد موسوليني، فتحرروا من صناعة ما اعتبروه أفلاماً مُصطنعة زائفة وهروبية، ومنهم.. روبرتو روسيلليني، فيتوريو دي سيكا، لوكينو فيسكونتي، فأصبحت قصص أفلامهم تدور في عصرهم، من دون الهروب إلى حكايات تاريخية قديمة ومزخرفة، إضافة إلى حياة الفقراء والعمال، والمشكلات اليومية، والناس العاديين، فليس هناك أبطال أسطوريون، ولا أشباه آلهة. وبالنسبة للتقنية نجد أن هذه الأفلام ارتبطت بموقع التصوير الحقيقي، الفيلم الخام الأبيض والأسود البعيد عن الجودة، إضافة الصوت بعد التصوير/في مرحلة المونتاج، استخدام الكاميرا المُتنقلة، ما جعلها أكثر شبهاً بالأفلام الإخبارية، ما أضفى عليها سمات الواقعية.

حداثة فيلليني

العالم كما يتم تذكره، من خلال تداعي المعاني عبر ذهن الراوي. من هذه العبارة يبدأ فيلليني تشييد عوالمه، هناك بصيرة هي التي ينعكس من خلالها العالم، إدراك مستمر للحظات وجودية. فيلليني يترجم الحياة ذاتياً من خلال رؤى وخيالات وأحلام يقظة وذكريات طفولة تستدعيها أزمة حالية. من هنا يتم التطرق إلى العمليات السردية في فيلم «8 ونصف» فالمخرج ــ قام بالدور مارشيلو ماستورياني ــ يفقد إلهامه فجاة أثناء تصوير فيلمه، وأصبح غير قادر على إنجازه، وتبدو حياته كلها على حافة الانهيار. يتم تصوير هذه الخيالات والأحلام في زمن حقيقي، فلا فارق بين طفولة البطل وحالته الآن، ولا يتم تصويرها وفق تقنية الفلاش باك مثلاً، إضافة إلى تصميم شريط الصوت، الذي لم يأت دوماً متطابقاً مع الصورة أو من وحي المكان، بل صادماً ومتنافراً تماماً، فالقطعات مع الثيمات الموسيقية أشبه بأفلام الرسوم المتحركة، هناك عالم خفي يعكس كل المظاهر الزائفة للواقع.

وودي آلن وانهيار اليقين

تُرجع المؤلفة أعمال وودي آلن إلى عالم ما بعد الحداثة، حيث اللايقين، ولا وثوق في مقدس من الممكن أن ينقذ الفرد في اللحظة الأخيرة، كما كان يتخيل «يوربيديس» في مسرحياته، كحَل درامي. في عوالم وودي آلن يبدو الإنسان لا يجد إلا ذاته للاعتماد عليها، ويحاول استخلاص معنى للحياة من لا شيء. وتتعرض لشخصيتين أداهما وودي آلن في فيلمي «الحب والموت» 1975 و»جرائم وجنح» 1989، فالأول ينتظر حكم الإعدام لمحاولته اغتيال نابليون، فيأتيه ليلاً في زنزانته ملاك من عند الرّب، يُبشره بأن نابليون سيعفو عنه، ويمضي صباحاً إلى المشنقة وكله ثقة في كلمات ملاك الزنزانة الليلي، لكن يتضح له أنها مجرد كلمات غير ذات معنى، ولا أحد يهتم بها. أما قاتل عشيقته في الفيلم الآخر، فقتل بالفعل، لكنه لا يشعر بأي ذنب، ويعيش حياة هادئة، وبالتالي لم يتم القبض عليه!
وكما قال دريدا إن اللغة هي مرجع أو إحالة غير نهائية، تستمد معناها الوحيد فقط من الكلمات الأخرى، كذلك أفلام وودي آلن، التي تنعكس من خلال أساليب وأشكال السينما السابقة، فالواقع المنعكس من خلال الأفلام، لا يُشير إلى بعض الحقيقة خارج نطاق الأفلام الأخرى. الأمر يمتد إلى اللعب بالأساليب، فالوثائقي الذي يدّعي أصحابه أنهم يقدمون الحقيقة يسخر منه آلن في فيلم «زيليج» 1983 لتبدو الواقعية الوثائقية مُختلقة تماماً كواقعية هوليوود، فكلها أساليب تعتمد على التقاليد الفيلمية ليس أكثر. فبدون الوهم والخيال لن تكون الحياة مُحتملة، فقط في الأعمال الأدبية والفنية تنتهي العلاقات في حالة من السعادة أو التوازن.

تقنية الديجيتال وأشكال السرد الجديدة

تختتم المؤلفة الكتاب بفصل عن السينما الرقمية، من خلال تجربة فيلم «تايم كود» 2000 للمخرج مايك فيجيس، فالفيلم تم تصويره في زمنه الحقيقي من خلال 4 كاميرات متزامنة، كل كاميرا تصوّر حدثاً مما يحدث في الوقت نفسه. فزمن الفيلم 93 دقيقة، هو نفسه زمن التصوير. كان المخرج يصور الفيلم ثم يُشاهده، وإن لم يرض عنه يُعيد تصويره مرّة أخرى بعد عدة ساعات. التصوير تم من خلال لقطة واحدة من دون قطع في كل من الأفلام أو الأجزاء الأربعة، إضافة إلى عرضها بالتزامن على الشاشة، بعد تقسيمها إلى أربعة أجزاء. ويتكرر تذكير المُشاهد بهذا التزامن في وقوع الأحداث من خلال الساعات ومواقيتها في كل جزء، محادثات التليفون بين الشخصيات، يهتز الكادر في اللحظة نفسها نتيجة الزلزال الذي ضرب أماكن الأحداث المختلفة. ومن ناحية السرد، يظهر شريط الصوت بالتبادل من مربع إلى آخر، حتى لا يتشتت المتفرج، إضافة إلى التركيز على حدث من خلال تنبيه المُشاهد، بحيث تصبح المربعات الثلاثة على الشاشة مجرد أحداث غير جديرة بالاهتمام، وهكذا حتى يتواصل المُشاهد مع هذه التجربة، وبالفعل يدخل الفيلم في حيز التجريب، الذي لولا تكنولوجيا التصوير الرقمي، لما استطاع مخرجه أن يُنجزه.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *