«أيام الأتوبيس والعكس»: مفهوم الإيمان وتحولاته في قلوب «الخراف الضالة»

القاهرة ـ «القدس العربي»: نظمت المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا) عروضاً مسرحية مستوحاة من نصوص سويسرية، جاءت تحت عنوان «أيام الأتوبيس والعكس»، قدمتها فرق مصرية مستقلة، وعرضت على مسرح جمعية النهضة»الجزويت» بالقاهرة. والعروض هي «لحد ما نثبت العكس»، إخراج محمد أسامة عطا، عن نص «إثبات العكس» للكاتب أوليفييه تشياشاري، «الأيام الصفراء»، من إخراج بيشوي مكرم، عن نص «أيام صفراء» للكاتبة دانييلا يانيك، وعن نص «الأتوبيس» للكاتب لوكاس بيرفوس قُدّمت ثلاثة عروض، هي : «مفترق طرق» إخراج شريف محمود، «المشوار الأخير» إخراج باسم القرموط، و»الحادثة» من إخراج أحمد فؤاد صابر. ويبدو من خلال هذه العروض المستوى الإحترافي اللافت لهذه الفرق ــ رغم تباينه ــ سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج، وهو ما يفوق بمراحل العديد من فرق الدولة المسرحية. والتجربة الأكثر إثارة هنا تتمثل في الرؤى المختلفة لثلاثة عروض تناولت نصاً مسرحياً واحداً، المعنون بـ «الأتوبيس»،وهو ما سنتعرض له تفصيلاً في هذا المقال.

«أيام الأتوبيس والعكس»: مفهوم الإيمان وتحولاته في قلوب «الخراف الضالة»

[wpcc-script type=”8ceee15034a3cc43d3f18b89-text/javascript”]

 القاهرة ـ «القدس العربي»: نظمت المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا) عروضاً مسرحية مستوحاة من نصوص سويسرية، جاءت تحت عنوان «أيام الأتوبيس والعكس»، قدمتها فرق مصرية مستقلة، وعرضت على مسرح جمعية النهضة»الجزويت» بالقاهرة. والعروض هي «لحد ما نثبت العكس»، إخراج محمد أسامة عطا، عن نص «إثبات العكس» للكاتب أوليفييه تشياشاري، «الأيام الصفراء»، من إخراج بيشوي مكرم، عن نص «أيام صفراء» للكاتبة دانييلا يانيك، وعن نص «الأتوبيس» للكاتب لوكاس بيرفوس قُدّمت ثلاثة عروض، هي : «مفترق طرق» إخراج شريف محمود، «المشوار الأخير» إخراج باسم القرموط، و»الحادثة» من إخراج أحمد فؤاد صابر. ويبدو من خلال هذه العروض المستوى الإحترافي اللافت لهذه الفرق ــ رغم تباينه ــ سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج، وهو ما يفوق بمراحل العديد من فرق الدولة المسرحية. والتجربة الأكثر إثارة هنا تتمثل في الرؤى المختلفة لثلاثة عروض تناولت نصاً مسرحياً واحداً، المعنون بـ «الأتوبيس»،وهو ما سنتعرض له تفصيلاً في هذا المقال.

من القسوة إلى القتل

ما بين هيرمان سائق الأتوبيس وإيريكا الفتاة المتدينة يبدو الصراع الأعمق، هيرمان المُتحكم والمسيطر على جميع الركاب والمخلوقات الهشة التي تستقل حافلته، وإيريكا التي تريد الذهاب إلى مدينة الأم المقدسة، وفق رؤيا زارتها في منامها. فارق هيرمان تعاليم ربه منذ زمن، وها هو يطبق قوانينه الخاصة، فلا قلب لديه، ويرى الجميع مخلوقات ضعيفه تتوسل بوهم الإيمان كمحاولة للتحايل على مشكلاتها، وبينما تستقل إيريكا الحافلة بالخطأ، فهي بذلك أصبحب تحت رحمة هيرمان، والذي يتخذها عدواً أوحد، ويحاول إثبات عدم الجدوى من وجودها ومن رحلتها، فإلى أي مدينة ستذهب، وهل ستجد الرب هناك؟ وحتى مخلوقات مدينة الرب التي في مخيلتها، سيعاملنها بقسوة، وقد هجر الجميع الرب، ولا أمل من هذه الرحلة. وتحاول إيريكا أن توقظ الإيمان في قلب السائق، الذي يدخل التجربة في لحظة، وأيضاً ينفذ قوانينه، لكن هذه المرّة باسم الرب، فيرى الجميع وقد طالهم الذنب، فيتخلص منهم جميعاً، وينفلت من الموت في اللحظة الأخيرة، ويعود إلى إيريكا محاولاً أن يتبعها إلى مدينة خيالها!

مفترق طرق … و شخصية عربية سورية

في هذا العرض يبدو هيرمان شديد القسوة والفجاجة والسيطرة على الآخرين، وقد ترصّد إيريكا الراكبة معه بالخطأ، واتهمها أنها مدمنة للمخدرات، فتسخر منه ومن الآخرين بادعاء إيمان زائف، والذهاب إلى مدينة الأم المقدسة، وتمثالها الأسود. تبدو الشخصيات في غاية الخوف والعزلة، وكأن هيرمان الوحيد الذي يعرف تاريخ الجميع، حيث من بينهم زوج أم إيريكا، الذي لم يستطع إنقاذها، واكتفى فقط بالتأسي لحالها، وهو الذي يعشقها في الحقيقة. حاول النص أن يضيف شخصية من العالم العربي ــ شاب سوري ــ يبدو كرد فعل لما يحدث اليوم في سوريا، وقد هجر الرب الغرب، وجعله يقتل أهل الشاب أمام عينيه، وها هو الآن يخفي هويته، ويحاول أن ينفذ بدوره مشيئة ربه هو الآخر، وفي لحظة ــ رغم تعاطفه مع الفتاة ــ ويتخيل للحظة أنه انتقم وتخلص من الجميع، وهو معهم، بأن يضغط زر الحزام الناسف الذي يرتديه، فالجميع في ضلال ويجب التخلص منهم، فهو الوجه المقابل لهيرمان بعدما تمكّن منه الإيمان، وقد رأى كل منهما في نفسه المتحدث الأوحد باسم الرب، والمنفذ لمشيئته، وهو التخلص من كل المذنبين في هذا العالم، ولو كلفه الأمر حياته. فكرة الإيمان دون وعي، أو أن تؤمن من خلال ذاتك وتصوراتك، ستؤدي في النهاية إلى أن تصبح نموذج لقاتل، فلا مكان لآخر، فكل الآخرين أشرار، ويجب التخلص منهم.
حاول عرض «مفترق طرق» أن يؤكد على هذه الفكرة، وقد تساوى الكفر والإيمان معاً، عندما ترى أنك الوحيد الذي يسلك الطريق الصحيح. لكن ما يعيب العرض أنه اعتمد الحوار أكثر من اللازم، وتناسي الفعل المسرحي وأدوات المسرح، حتى أن بعض الأداء التمثيلي جاء مبالغاً إلى حدٍ كبير، خاصة هيرمان وصراخه المتواصل، مؤمناً كان كما يتوهم أو ساخراً من حالة الخلاص التي حاولت إيريكا إقناعه بها، وقد نجحت في النهاية.

المشوار الأخير

مسرحة الحكاية هى سمة عرض «المشوار الأخير»، حيث يبدو الاهتمام بالمكان وتفاصيله، واستخدام هذه التفاصيل ــ مقاعد الأتوبيس ــ في تكوين لوحات راقصة تصف حالات التطور والتصاعد الدرامي للنص، بفضل عنصري الموسيقى والإضاءة. المقاعد المتراصة إلى يمين خشبة المسرح، حيث يجلس الجميع وفي مقدمتهم هيرمان قائد الأتوبيس، وكأنهم يسيرون وفق مشيئته، ثم تبدأ اللوحات الإيقاعية في توافق بين أجساد الممثلين وهذه المقاعد، كمحاصرة إيريكا ومحاولة التخلص منها، لكونها بهذه الحالة الإيمانية تقلق أرواحهم التي استسلمت إلى الخطايا. خيال المخرج هنا حاول قدر جهده تفسير النص والإيحاء بمضمونه أكثر من اعتماده على الحوار المطوّل والمبالغة في الأداء التمثيلي.
المعالجة الأخيرة جاءت تحت عنوان «الحادثة» ويبدو هنا أن هيرمان هو بطل العرض الوحيد، وقد تخلص من الجميع، وذهب للعيش مع أنطون عامل محطة الوقود المنعزل عن العالم، والذي يرى في المدنية وما يدعى بالتحضر السبب الوحيد لفناء العالم. وما بين عزلة الوعي التي يمثلها أنطون، وعزلة الخلاص الموهوم التي يمثلها هيرمان تأتي الأسئلة الأساسية ومحاولة مناقشتها والتحاور حولها. هنا تبدو إيريكا حالة من خيالات هيرمان، وكأنها من اختراعه، يُحمّلها مسؤولية إيمانه وتخلصه من كل الآخرين. هيرمان هنا رغم قسوته وصوته الزاعق، يبدو أكثر خوفاً ورعباً من الجميع، فهو أقل من أن يتحمّل مسؤولية أن يكون مؤمنا.
في كل من عرضي «مفترق طرق» و»المشوار الأخير» كان الالتزام أكثر بالنص المسرحي، والمتمثل في حالة إيريكا. فسيلقي بها هيرمان إلى أنطون عامل محطة الوقود البعيدة عن صخب العالم ومشكلاته، ويستكمل المسير بحافلته ومَن عليها، حتى ينجح في التخلص منهم، ويعود إلى إيريكا وهو يقترب من الموت، وقد تخلص بفضلها من جموع المذنبين، ويذهبا معاً إلى مدينة خيالها. لكن ماذا عن إيريكا؟
لقد تحوّل حال الفتاة بدورها، وراقت لها فكرة أنطون، بأن يتزوجا، وتعيش معه هذه العزلة المؤقته، وحلم كل منهما بإنجاب الأطفال وتكوين حياة جديدة. هنا تتوازن حالة الهرب إلى مدينة مقدسة وأهلها الذين هجر الرب قلوبهم، وحال العزلة التي يحياها أنطون، هما الوجهان الأمثل للمأساة، ما بين أخطاء الإنسان وأخطاء إدعاء الحضارة، ولا مكان لهيرمان بالمرّة داخل هذا العالم، فهو قاتل، ولذا يجب عليه أن يموت في النهاية.
أما في عرض «الحادثة» فقد كانت الحالة أكثر اهتمام بتطهير هيرمان ووضعه أمام مرآة نفسه، بداية من إلقاء اللوم على إيريكا، وقد أصبح قاتلاً حينما أرشدته وأقنعته بالتعاليم الدينية، لكنها تفسد حججه، فهي لم تقل له اقتل باسم الرب. كذلك يحاول أن يبدو أخلاقياً أكثر من أنطون، ليصف الأخير بأنه لا يستفيق من شرب الخمر، فيرد أنطون بأنه لم يضر أحد، ولم يقتل، ولم يفرق بينه وبين حبيبته إيريكا.

النص وعروضه

ومن خلال العروض المتعددة لنص «الأتوبيس» تبدو طرافة الفكرة، بأن يمكن العمل من خلال نص واستكشاف الرؤى والدلالات الإخراجية والأدائية للموضوع الواحد، وكيفية متابعة تحويل نص إلى عرض مسرحي، وبالتالي المقارنة بين وجهات النظر والجماليات المختلفة التي انتهجها صُناع العروض، التي تدعو إلى التقدير في النهاية، مع الوضع في الاعتبار الميزانيات المحدودة لهذه الفرق، مقارنة بمزانيات الدولة ومسارحها وعروضها المتفاوتة المستوى إلى حدٍ كبير.

«أيام الأتوبيس والعكس»: مفهوم الإيمان وتحولاته في قلوب «الخراف الضالة»
مسرحيات مصرية مستوحاة من نصوص سويسرية على مسرح «الجزويت» في القاهرة
محمد عبد الرحيم
Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *