أين سوريا في نصوصكم؟
[wpcc-script type=”11120ca7ceb41d4e3f93cc13-text/javascript”]
شاركت مؤخرا في أمسية شعريّة في الديوان الشرقي في مدينة كولن الألمانية مع الشاعرين السوريين محمد زادة ومحمد المطرود، وبعد أن انتهينا من الإلقاء تمّ افتتاح جلسة حوارية مع الحاضرين.. كان الجوّ أقرب إلى أمسية عائلية بالمعنى الحرفي للكلمة وربما شتاتنا وغربتنا جعلتنا جميعا توّاقين للبوح والكلام.. ولا أظن أننا كنا لنحظى بلقاء كهذا في سوريا الأسد والمخابرات.
علّق البعض وقدّم البعض الآخر ملاحظات، وطُرحَ سؤال باغتنا في الأمسية وهو: أين سوريا في نصوصكم؟
كنت قد قرأت نصّا عن مدينتي السورية سلمية، لكنه لم يكن كافيا ليدلّ على الجرح السوري، وتساءلت وأنا أحاول أن أجيب: هل يمكن لأيّ كلام أن يصف منظر خروج طفل من تحت الأنقاض؟ هل يمكن مهما وصفنا منظر خروج الأحشاء ولونها البنفسجي المُزْرقّ والدم ورائحته المعدنية، منظر أشلاء البيت وحرمة الغرف والمطابخ، منظر العجائز وهم يفقدون أبناءهم وأحفادهم، منظر الثكالى، بكاء الرجال، مناظر العنف والقتل والتقطيع والوحشيّة، مئات السائرين في البريّة هاربين من الموت مطرودين من مكانهم الأول، والغرقى ونومُهم الذي يشلع القلب على شواطئ مياه خذلتْهم، وأخيرا نحن وما يُكتب ويقال عنا بصفتنا لاجئين، هل يمكننا أن نوصل كامل المشهد؟! كم تبدو اللغة هشّة وهزيلة أمام ما تنقله لنا الكاميرات.. من نحن أمام العالم الذي صفّق بدهشة طفلٍ في سيرك لمشاهد موتنا؟ ما الذي يمكن أن تقوله قصيدتي لتشرّح الموت السوري وتشرحه؟ القتل واضح والقاتل معروف والضحية مكشوفة أمام كل الأعين والضمائر المتفسّخة.. لا يعفينا ذلك من أن نكتب عمّا نراه، لكنني ضدّ الكتابة الآنيّة والمناسباتية، التي أعتقد أنّ من شأنها أن تمسخ المشهد أكثر من أن تحاكيه.. ربما يجب أن تكون المحاكاة الأدبيّة غير مقتصرة على التوصيف والوصف، إنما متجهة نحو التصعيد لطرح أسئلة ومحاولة إيجاد أجوبة لها، أسئلة تحمل على عاتقها تقديم القضيّة السورية كموقف إنساني عميق سياسيّا وأخلاقيّا..
قد تكون الأسئلة ترفا في ظلّ الموت.. لكن أليس الشِّعر ترفاً؟ يكاد يكون مستحيلا أن نصف فكيف بنا نريد أبعد من الوصف؟ والغريزة أوّل ما تمضي نحو سرد المشاهدات العينيّة، خصوصا في المصائب، ولكي تتنفّسَ الكتابة بشكل حقيقي لا بدّ للكاتب أن ينتقل من صدمة المجزرة إلى صدمة النجاة، وهنا هل سيكون منتميا في صدمة النجاة التي يراها إلى العالم ذاته الذي ينتمي إليه (الناجون مؤقتا) أولئك الذين يلمّون بقايا أحبتهم من تحت البيوت المتهدمة جرّاء قصف الطائرات، والذين سيكونون على موعد مفتوحٍ مع الموت.
حين غادرنا سوريا (ولم تكن جنة) بقينا ممهورين بألم الفقد وأخذت الكتابة منحى مختلفا ومكسورا، فيها كتبنا عن أحلامنا ومستقبلنا وبعد أن غادرناها مكرهين صرنا نكتب عنها، عن ذكرياتنا وخسارتنا، لم نعد غنائيين، صرنا مغرقين في السردية.. والمجزرة أبعد ما تكون عن السرد، إنها التكثيف الأكثر رعباً للنَّفَس الأخير.
البعد المكاني والزماني يفصلنا عما يحدث، إننا متفرجون، كذلك الهموم الجديدة في الاغتراب القسري تجعلنا بعيدين جدا.. نقف على حافة حياتنا.. فراغٌ خارج الجهات، نتوهّم الوقوف بين هاويتين، والذي يرانا من بعيد، أغلب الظن يرانا نهوي، ليس لنا سوى شهوة الارتطام ولو بموت ما، وأكثر ما يمكننا تحديده اليوم هو الخوف، الخوف الذي يفقدنا الصبر والتركيز.
كنت قد كتبت نصوصا كثيرة عن الحدث السوري.. عن الحرية .. وعن مأساة الشعب السوري في وجه الاستبداد وعن خسراننا أمام الكون كلّه.. لكنني تجنّبت إلقاء أيٍّ من تلك النصوص يومَ أمسية الديوان الشرقي في مدينة كولن، لا لشيء سوى رغبة بالابتعاد ولو للحظات عن كل ما يذكّرني بعجزنا، كنت أعلم أنني سأكون في حضرة السوريين، لذا لم أختر نصوصا تحاكي المأساة لأننا كلنا نعيشها، وبالنسبة لي أنا وحيدة في ألمانيا ويعنيني جدا لقاء السوريين يعنيني أن أعيش الفرح معهم .. الفرح قبل الدموع التي نذرفها كل يوم في اليقظة والنوم.. ومهما كُتب عن سورية الآن فإنه لم ولن يحاكي الواقع الذي شطح إلى أقصى درجات الوحشيّة، سنحتاج سنوات طويلة لنكتب ما جرى ويجري. إلى حينها لن يكون الوطن خارج النصّ.. إنما النصّ خارج الوطن!
٭ شاعرة سورية
لينة عطفة