إبراهيم الصلحي شيخ التشكيليين السودانيين: مزيج ناجح من توظيف الحرف العربي والزخرف الأفريقي
[wpcc-script type=”8266f0838c3c6d44c8b1ddf1-text/javascript”]
في إحدى لوحاته القديمة المعروضة الآن في أكبر متاحف بريطانيا إلى جانب لوحات بيكاسو والمعنونة بـ «الذي لا مفرّ منه» تنبّأ شيخ التّشكيليين السّودانيين إبراهيم الصلحي بما حدث ويحدث في العالم العربي. فاللوحة عبارة عن يد ضخمة ترمز للشّعب الذي يمسك الوطن بيديه لا بيد الحاكم، وهي لوحة تشير للمستقبل الذي يتفاءل الصلحي بكل تفاصيله.
ذلك لأن ممارسة الرّسم عند الصلحي لا تقتصر على البعد الفني الجمالي فحسب، بل تتعداه نحو السعي الفكري الفلسفي ليكون للفنان دور أساسي مؤثر في مجتمعه وقضاياه، وهذا ما جعل الفنان يغيّر أسلوبه عقب أول معرضٍ أقامه في السّودان بُعيد عودته من مدرسة الفنون في لندن، لأن المعرض لم يجذب الجمهور السوداني وعزا ذلك إلى أن الأعمال المعروضة لم تعبّر عن الموروث التّشكيلي للسّودانيين. وقد دفعه هذا للبحث عن مكونات الهوية السودانية في التجربة التشكيلية وذلك بغرض استخدامها لتأسيس أسلوب تشكيلي سوداني ومعاصر في آن. وقد نجح في ذلك عندما أسس «مدرسة الخرطوم» في بداية الستينيات وأظهر فيها الهوية السودانية عبر مكونين أساسيين: الحرف العربي من جهة، ومن الجهة الأخرى الزخرف الأفريقي الذي تراه حولك في كل مكان، ويتقاطع ذلك مع تيار الغابة والصّحراء (وهو في مجمله حركة لبعث العنصر الأفريقي في تكوين السوداني وجاءت بعد استقلال السودان مباشرةً). ورغم عدم إصدار بيان لمدرسة الخرطوم، إلا أنها كانت تسعى إلى تكوين أبجدية تصويرية تمثل لوناً وشكلاً جديداً في تكوين الصورة.
وإذا تتبعنا مسيرة الصلحي، نلاحظ تنوع أساليبه خلال مراحل حياته، فها هي اللوحة ذات النمو العضوي – بمعنى أن لكل جزء دور في الكلّ – تطل في فترة السّجن، فقد كان يأخذ ما يأتي به الزّوار من أكياس تُلف بها الأطعمة ويرسم على كلّ منها جزءاً من لوحة، وكانت كلّ هذه الأجزاء عنده «جنيناً» له دوره المحدّد في الكل، أي اللوحة الجامعة لهذه الأجزاء. ويجد الصلحي أن هذه التجربة الفريدة والعميقة هي التي دفعته لعدّ اللوحة «كائنًا حيًا» يخاطبها ويتوسل إليها أن تسهل مهمته، نعم يخاطبها كما يخاطب شخصًا أمامه، يسمعها وهي تجيب: كفى هذا اللون هنا، الضّوء كثير هنا وخافت هناك، زدني هذا وأنقصني ذاك.
لوحات الصلحي مليئة بالحركة التي تنبع من الخطوط المنحنية والدوائر المتراكبة كما في لوحة «بورتريه شخصي». كذا الخطوط المنسحبة شاقولياً والتي توّلد إحساساً بالاندفاع والحماس كما في لوحته «صدى أحلام الطفولة». فالخط الخارجي الذي يحتوي تعرجات ذات أشكال مختلفة تكون له فاعلية كبيرة في إعطاء الفكرة التي تمثل الحجم والكتلة، وذلك على الرغم من كون أعماله ثنائية البُعد لا تعترف بالمنظور أو البعد الثالث مثل صانعها الذي يقول: «البعد الثالث، إنما هو إيهام لا معنى ولا داعي له. التشكيل بالنسبة لي يتمّ على مساحة مسطحة ويجب ألا يتجاوز ذلك، إذا كان لا بدّ منه فخذ به، وإلا فأهمله لأن العمل الفني يستوي على سطح اللوحة ولا داعي لبعد ثالث له». البعض أرجع هذا الرأي إلى أن يكون ذا مرجعية دينية ليبعد العمل عن الواقعيّة، إلا أن الصلحي نفى ذلك فالمسألة ليست موقفًا دينيًا، وإنما هي رؤيته الخاصّة، فالبعد الثالث هنا يترك لمخيلة المتلقي ليملأ اللوحة بالأبعاد كما يليق بترتيب العناصر في خياله. العمل الفني هنا فكرة قبل أن يكون احتيالاً لونياً على الذائقة الجمالية، وعلى خلاف الفكرة الملتصقة بالفنون الأفريقيّة بأنها كرنفالٌ لوني معلّقٌ على صدر القارة السّمراء، تأتي لوحات الصلحي بألوانٍ بسيطة تحمل الحياة بين كفيها، ألوانٌ ترابية مستلهمة من التراث السّوداني، مكونات لونية بسيطة هي الأبيض والأسود حيث كان التركيز عليهما في معالجة الصورة بحثاً عن درجة رمادية، واستمرت هذه المرحلة منذ أواخر السبعينيات إلى منتصف التسعينيات حتى التوصل إلى درجة لونية رمادية مع الإبقاء على كثافة الأسود ونقاء اللون الأبيض مع تكثيف العامل الدرامي في صنع اللوحة.
بالإضافة للون البني وأحيانا الأحمر (الطوبي) وهي ألوان التراب في أم درمان، منها تشتم رائحة الأرض وعبق من سكنها ومنها سكنت ذاكرة العالم، حيث تتوزع لوحات الصلحي في متحف الفن الحديث ومتحف الميتروبوليتان بنيويورك ومتحف الفن الأفريقي بواشنطن ومكتبة الكونغرس وغاليري لامبير بباريس والناشيونال غاليري في برلين وغيرها.
يقول الصلحي: «بلادنا تتميز بوجود الشمس الساطعة والمعروف أن الضوء القوي الساطع كشمسنا يسطح الأشكال ولا يعطيك الشكل الحقيقي، حيث ترى فقط الألوان القاتمة، إضافة إلى تقديري الخاص في أن كثافة الألوان أو قوس قزحية الألوان لا تعطيك المعنى والعمق الحقيقي للأشياء وهذه الأسباب مجتمعة دفعتني لاختزال الألوان واكتشاف درجات لونية جديدة».
أعمال الصلحي تدور حول دراسة الطبيعة ووجوه البشر أكثر من أي شيء آخر، ويأتي التعرف عليهما عن طريق الملاحظة الدقيقة، ليستطيع الفنان دمج ما تراه العين وما تراه البصيرة ضمن عملٍ واحد. واللافت في أعمال الصلحي حضور شجرة «الحرازة» وهي إحدى المميزات الطبيعية للسّودان، حيث غدا وجودها طابعاً للهوية السودانية التي كان يشار إليها فيما سبق بعباراتٍ باللغة العربية في زوايا لوحاته – تماماً كما نرى في الطوابع البريدية – أو عبر لون التراب، شكل الرؤوس، تحديق العيون في ذعر مفاجئ .. جميعها تدلّ أن هذا الفن مرتبط بكل ما هو من الأرض، إلا أن هذه الشجرة ذات دلالاتٍ فريدة يُحكى أنها قد حاربت المطر، ويراها الصلحي رمزاً لإنسان تتمثل فيه قوة الشكيمة، والإصرار على الحياة رغم فظاعة الظروف وقسوة الطبيعة والجفاف والتصحر. الرّسوم تبدأ من نقطة ثم خط للوصول لأشكال مغلقة أو مفتوحة بالإضافة إلى العناصر التجريدية النابعة من خيال الصلحي الصرف. يذكر الناقد الفرنسي مكسيميليان غوتيه في مقال له بعنوان «ضياء أسود» أن أفريقيا بطبيعتها عالم متشابك، وإن الغابات لا تفسح مجالاً للشعور الواضح والفكر المطمئن، ولذلك فإن الخيال الذي ينبغي أن يكون إشارةً إلى الانطلاق يجعلنا نستقبل هذه الإشارة وننطلق في رحلةٍ داخليةٍ طويلة. أمتار تفصلنا عن لوحات الصلحي إلا اننا نحتاج لسنواتٍ طويلة لنصل إلى ضفافها الفكرية، يقول الصلحي: «لقد وصلت أخيراً إلى نتيجة مفادها أن العمل الفني ما هو إلا نقطة انطلاق لذهنية الفرد، وكأنه مرآة عاكسة تعيدنا إلى ذواتنا، والرسالة التي أحرص على إيصالها من خلال أعمالي الفنية هي ببساطة مخاطبة الذات الأخرى، إذ أحاول دائماً أن يكون العمل منطلقا فكريا يحرك وجدان الآخر لرؤية داخلية.
بسمة شيخو